الحمد لله.
أولا:
التنبؤ: هو تكلّف النبوة ممن ليس بنبي.
قال الزبيدي رحمه الله تعالى:
" (وَتَنَبَّأَ)... إِذا (ادّعاها) أي النّبوّة، كما! تنبّى مسيلمة الكذّاب وغيره من الدجّالين، قال الرّاغب: وكان من حقّ لفظه في وضع اللغة أن يصحّ استعماله في (النَّبِيء) إِذا هو مطاوع نبّأ كقول زيّنه فتزيّن وحلاّه فتحلّى وجمّله فتجمّل، لكن لمّا تُعُورف فيمن يدّعي النبوّة كذبا جُنِّب استعماله في المحقّ ولم يُستَعمل إلاّ في المُتقوِّل في دعواه " انتهى من "تاج العروس" (1 /445- 446).
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتكلف معرفة ما سيأتي.
قال الله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) سورة ص /86.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) يقول: وما أنا ممن يتكلف تخرصه وافتراءه، فتقولون: ( إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ ) و ( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ).
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) قال: لا أسألكم على القرآن أجرا تعطوني شيئا، وما أنا من المتكلفين أتخرّص وأتكلف ما لم يأمرني الله به" انتهى من "تفسير الطبري" (20/150).
وإنما هو صلى الله عليه وسلم مخبر ومبلغ بما يوحي إليه الله تعالى.
كما قال الله تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) الأحقاف/9.
فينبغي أن تقول هل "أنْبأ" أو "أخبر" النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع معركة صفين، أو نحو هذا من التعبير الملائم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا:
قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بجملة من الفتن التي ستقع بعده، ومنها معركة صفين.
روى البخاري (7121)، ومسلم (157) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ).
وهذا الوصف ينطبق على قتال صفين كما بيّنه شراح الحديث، حيث كان الجيشان عظيمين، جيش علي وجيش معاوية ومن معه من أهل الشام، وكان القتل كثيرا فقد طال القتال، وكانت دعوتهما واحدة فكل طائفة تنتسب إلى الإسلام وتدعو إلى ما تعتقده من الحق، فعلي رضي الله عنه، كان يرى أن على أهل الشام أن يبايعوه كما بايعه سائر المسلمين، وأهل الشام كانوا يعتقدون أن على علي رضي الله عنه أولا أن يسلمهم قتلة عثمان الذين اندسوا في جيشه ثم يبايعوه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة.
وهم قالوا –أي معاوية وأصحابه -: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا. وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان؛ وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف " انتهى من "مجموع الفتاوى" (35/ 72-73).
قال بدر الدين العيني رحمه الله تعالى:
" قوله: فئتان أي: جماعتان؛ هما فئة علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، وفئة معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه -. قوله: (دعوتهما) ويروى: (دعواهما)، والمراد بالدعوى الإسلام على القول الراجح، وقيل: المراد اعتقاد كل منهما أنه على الحق وصاحبه على الباطل بحسب اجتهادهما. وفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم" انتهى. "عمدة القاري" (24 / 135).
وروى مسلم (1064) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ).
والمقصود بالفرقة المارقة الخوارج حيث كان خروجهم زمن صفين وقاتلهم علي رضي الله عنه.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
"وفى هذا: الإخبار بالاختلاف الذى جرى بين علي ومعاوية رضى الله عنهما، وترك تكفير إحدى الطائفتين أو تفسيقها بهذا القتال؛ لأنه وصفهم بأنهم أدنى الطائفتين إلى الحق، وأقرب أو أولى، وسماهم مسلمين" انتهى من "إكمال المعلم" (3/613).
ومن هذا الباب ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحسن بن علي رضي الله عنه سيصلح بين طائفتين من المسلمين، وكان هذا الصلح إثر صفين، حيث تنازل لمعاوية رضي الله عنه عن الخلافة بعد وفاة والده علي رضي الله عنه.
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ إِلَى جَنْبِهِ، يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً وَإِلَيْهِ مَرَّةً وَيَقُولُ: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) رواه البخاري (3746) .
وطالع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم: (240359)، ورقم: (221904).
والله أعلم.
تعليق