الحمد لله.
أولًا:
في صحيح البخاري (3329) عن أنس رضي الله عنه قال: “بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خبرني بهن آنفًا جبريل…… وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه، كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها)، قال: أشهد أنك رسول الله”.
وفي مسند أحمد (2471) من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجماعة من اليهود حين جاؤوه: (فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان الولد والشبه بإذن الله، إن علا ماء الرجل على ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله، وإن علا ماء المرأة على ماء الرجل كان أنثى بإذن الله).
قالوا: نعم.
وفي صحيح مسلم (315) من حديث ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله).
وقد شرح الحافظ ابن حجر هذه الأحاديث وجمع بينها في “فتح الباري” (7/320) فقال: “قوله (فإذا سبق ماء الرجل) وفي رواية الفزاري: فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه.
قوله: (نزع الولد) …. ووقع عند مسلم من حديث عائشة: إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أخواله، ونحوه للبزار عن ابن مسعود وفيه: ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما أعلى، كان الشبه له.
والمراد بالعلو هنا السبق؛ لأن كل من سبق فقد علا شأنه، فهو علو معنوي.
وأما ما وقع عند مسلم من حديث ثوبان رفعه: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر؛ فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله =
فهو مشكل من جهة أنه يلزم منه اقتران الشبه للأعمام، إذا علا ماء الرجل، ويكون ذكرا لا أنثى، وعكسه؛ والمشاهَد خلاف ذلك، لأنه قد يكون ذكرا ويشبه أخواله لا أعمامه وعكسه.
قال القرطبي: يتعين تأويل حديث ثوبان بأن المراد بالعلو السبق.
قلت: والذي يظهر ما قدمته وهو تأويل العلو في حديث عائشة، وأما حديث ثوبان فيبقى العلو فيه على ظاهره، فيكون السبق علامة التذكير والتأنيث، والعلو علامة الشبه فيرتفع الإشكال. وكأن المراد بالعلو الذي يكون سبب الشبه: بحسب الكثرة، بحيث يصير الآخر مغمورا فيه، فبذلك يحصل الشبه”.
ثانيًا:
إلى الآن لم يحسم العلم هل هناك نوع من الماء تقذفه المرأة (ليس هو ماء المهبل)، فيكون له دور في عملية التكوين أم لا، وهناك احتمال أنه كما تفضلت بالنقل عن الدكتور البار.
بالنسبة لما ذكرت من مسألة الشبه: فمن المحتمل أن الحديث الشريف يشير إلى ما يسميه العلم اليوم ببروز وعدوانية الجينات، وهذا البروز هو ما يجعل بعض الأولاد أشبه بأمه وأخواله وبعض الأولاد أشبه بأبيه وجده وبعض أعمامه.
وعلى ذلك الاحتمال؛ يكون الحديث قد استعمل للتعبير عن هذه الظواهر، أو غيرها: لسان الناس، ومفردات لغتهم، وبيانهم.
فإذا تعاطى العلم نفس الظاهرة، وتصدى لتحليلها، فإن يحاول أن يعطي تفسيرا متكاملا، بحسب ما تسعف به أدوات البحث، والملاحظات الإكلينيكية.
وإذا صح الحديث، وثبتت التجارب العلمية، والملاحظات المعملية: فإنهما لا يتعارض تعارض النقيض والنقيض؛ وكما قلنا: إن البيان النبوي محكوم بما تبلغه عقول أهل ذلك الزمان، ثم لا يكون مصادما في مضامينا، لما يثبت علميا بعد ذلك. ويكفي أن يشير إلى المعنى الكلي، والغرض الإجمالي من الفكرة، لأن النظر العلمي ليس مقصودا بالأصالة في لسان الشرع، فليس هو كتاب طب، ولا فلك، ولا فيزياء، وإنما هو كتاب هداية للناس، وتشريع للعالمين.
فلننتبه جيدا إلى هذه القاعدة: أن ما يقع في لسان الشارع من هذه الإشارات العلمية، التي يعني بها الباحثون في الإعجاز العلمي، بمختلف جوانبه: إنما هو – في غالب أمره – تعبير عن الظواهر المختلفة بمفردات عصره، وهذه المفردات تحتمل عدة معاني، ولا يمتنع أن يكون من معانيها ما يوافق، بشكل عام، مع التفسير العلمي المعاصر الذي هو – بطيعة الحال – : أكثر عناية بتفاصيل الظاهرة، وقصدا لدراستها دراسة تجريبية. لكنه، وبكل حال: لا يمكن أن يبطل كلام النبي صلى الله عليه وسلم، الثابت عنه.
والله أعلم.
تعليق