الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

هل خالف بعض الصحابة شيئا من السنن الصحيحة؟

428559

تاريخ النشر : 26-09-2023

المشاهدات : 4189

السؤال

ورد في إحدى فتاوى موقعكم أن علي بن أبي طالب والصحابة عموما رضي الله عنهم أجمعين، قد حصل منهم أنهم اجتهدوا فخالفوا السنة الصحيحة الثابتة، فآمل ذكر أمثلة على ذلك، مع التعليق عليها والشرح؟

 

الجواب

الحمد لله.

الصحابة رضوان الله عليهم مع عظم فضلهم وعلو مكانتهم وشدة تحريهم للحق إلا أنهم غير معصومين، فربما وقع من بعضهم الخطأ، ولذلك أمروا عند الاختلاف أن يتحاكموا إلى نصوص الكتاب والسنة.

قال الله تعالى:  

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا النساء/59.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين الأولين ومن بعدهم، إلا لهم أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة، وهذا باب واسع لا يحصى، مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم، ولا يسوغ اتباعهم فيها، كما قال سبحانه: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ).

قال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من "الفتاوى الكبرى" (6 / 94).

وبسبب عدم عصمتهم لم يكن قولهم دوما حجة، كما سبق تفصيل هذا في جواب السؤال رقم: (229770).

والخطأ الذي قد يصدر من أحدهم بمخالفة السنة الثابتة لا ينقص من مقدارهم؛ لأن لهم أعذارهم المشروعة في هذه الأخطاء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما، يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته؛ دقيق ولا جليل؛ فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه.

وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:

أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.

والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.

والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.

وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة:... " انتهى من "رفع الملام" (20/232).

فقد يخالف الصحابي السنة لأنها لم تبلغه.

ومن أمثلة هذا تحريق علي رضي الله عنه للمرتدين الذين ادعوا فيه الألوهية ورفضوا التوبة.

عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ:  لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلَقَتَلْتُهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ رواه البخاري (3017)، وقال الترمذي بعد روايته لهذا الحديث (1458): " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ فِي المُرْتَدِّ " انتهى.

ومثال آخر: عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا، فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا، وَلَا تُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ.

قَالَ: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ.

فَنَزَلَتْ: آيَةُ المِيرَاثِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا، فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ.

رواه الترمذي (2092) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ"، وصححه الحاكم والذهبي "المستدرك" (4/334)، وحسنه الألباني "إرواء الغليل" (6/ 121 – 122).

وقد نقل عن ابن عباس رضي الله عنه بأن حُكم البنتين حكم الواحدة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" وقد انفرد ابن عباس بأن حكمهما حكم الواحدة وأبى ذلك الجمهور... واحتج للجمهور بحديث ابنتي سعد بن الربيع السابق ... " .

ثم قال : " ويعتذر عن ابن عباس بأنه لم يبلغه، فوقف مع ظاهر الآية، وفهم أن قوله: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) لانتفاء الزيادة على الثلثين، لا لإثبات ذلك للثنتين " انتهى من "فتح الباري" (12 / 15 - 16).

وقد يترك أحدهم السنة بسبب اجتهاد له في فهمها، ولا يكون مصيبا في هذا الفهم .

كاجتهاد عثمان وعائشة رضي الله عنهما في إتمام الصلاة في السفر في بعض الأحوال.

روى البخاري (1084)، ومسلم (695) عَنِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يَزِيدَ، قال: "صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ".

وروى البخاري (1090)، ومسلم (685) عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " الصَّلاَةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلاَةُ الحَضَرِ".

قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: "تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ".

وقد تنوعت أقوال أهل العلم في تحديد هذا التأويل.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره، فله حكم المقيم فيتم...

وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة اهـ.

وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي، لكن الوجه الذي قبله أولى...

روى الطحاوي وغيره من هذا الوجه عن الزهري، قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعا، لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام؛ فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع.

وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن عثمان أنه أتم بمنى ثم خطب، فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طَغام، فخفت أن يستنوا.

وعن ابن جريج أن أعرابيا ناداه في منى: يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين.

وهذه طرق يقوي بعضها بعضا...، وأما عائشة فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحا، وهو فيما أخرجه البيهقي من طريق هشام بن عروة، عن أبيه: ( أنها كانت تصلي في السفر أربعا، فقلت لها: لو صليت ركعتين؟ فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي ) إسناده صحيح.

وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل" انتهى من "فتح الباري" (2/571).

وهناك أمثلة أخرى كثيرة ، ينظر: رسالة "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب