الأحد 23 جمادى الأولى 1446 - 24 نوفمبر 2024
العربية

ماحكم ما يسمى بـ "أنماط الشخصية"؟

429117

تاريخ النشر : 04-05-2023

المشاهدات : 19135

السؤال

منذ فترة طويلة، وقد اشتهر شيء يسمى أنماط الشخصية، ولمعرفة نمطك الشخصي يجب القيام أولا باختبار، والاختبار هذا فيه أسئلة؛ كهل تحب أن تفعل كل شيء في وقته، وإلى ما ذلك من الأسئلة، وفي نهاية الاختبار يعطيك نمطك، وصفات شخصيتك، أنا لا أصدق بهذه الأشياء، ولكن منذ فترة طويلة قد أجريت هذا الاختبار، ولكني تركت هذا، والحمد لله، فهل علي شيء؟ وما حكم من يصدق بهذا؟ وما حكم من يفعل الاختبار من أجل معرفة نمطه؟ وما حكم نشر شيء بخصوص هذه الأنماط؟ فأنا أرى كثيرا من الناس مهووسين بهذا، ويروجون له في مواقع التواصل، فأريد أن أعرف حكمه.

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

 يعد مفهوم الشخصية من أكثر مفاهيم علم النفس تعقيداً وتركيباً، ولهذا اختلفت تعريفات الشخصية بتعدد واختلاف المدارس النفسية التي تناولتها، وباختلاف الاتجاهات الفلسفية والمنطلقات الأيديولوجية.

الشخصية تشمل جميع السمات والخصائص والمراوغات التي تميزك عن أي شخص آخر ، يمكن أن يكون تعريف الشخصية معقدًا ، ويمكن أن تؤثر طريقة تعريفها على كيفية فهمها وقياسها .

ووفقًا لبعض الباحثين: الشخصية هي النمط المتماسك للتأثير والإدراك والرغبات (الأهداف).

وتعرف الشخصية أيضاً: بأنها الفروق الفردية، في الأنماط المميزة للتفكير والشعور والتصرف.

ويعرف عالم النفس المعروف كارل يونج (Jung Carl) الشخصية بناء على مصطلح القناع Persona، الذي يضعه الفرد على نفسه، استجابة لكل من المقتضيات الاجتماعية، والمطالب الذاتية النابعة من حاجات الفرد الأولية.

 أما الطبيب النفسي أيزنك (Eysenck)، فيعرفها بأنها ذلك التنظيم الثابت والدائم إلى حد ما، لطباع الفرد ومزاجه وعقله وبنية جسمه، الذي يحدد توافقه الفريد لبيئته.

ويعتقد كارل يونج أن الفروق بين الأفراد ليست عشوائية، إنما هي نتاج تفضيل فطري، فيولد الإنسان باستعداد معين، ويختلف السلوك نتيجة هذه الفروق. كما تؤثر كل من البيئة والوراثة في تكوين النمط، وعلى نمو تفضيلات الشخصية وارتقائها.

ونظرية أنماط الشخصية لا تفسر بالضرورة تفاصيل السلوك الإنساني كافة، لأن الإنسان شديد التعقيد، وما ينظر إليه هو التفضيل الطبيعي للشخصية، وكيفية تداخلها لخلق الشخصية الفريدة والمميزة.

ويتكون نمط الشخصية عند يونج من التفضيلات، فيرى يونج أن كل إنسان يكون في واحد من اتجاهين أساسين متعاكسين، هما: توجه الانتباه والطاقة النفسية، منفتح، متحفظ -  (Extraversion – Introversion)- وحدد الاتجاه بأنه استعداد للذات أن تفعل، أو ترد الفعل، بطريقة معينة.

كما يرى بأن الإنسان له أربع وظائف نفسية: الحسي والحدسي (Sensing – iNtuition)، والتفكير والوجدان (Thinking – Feeling). وتتفاعل هذه الوظائف النفسية الأربع تفاعلاً دينامكياً، مع واحد من الاتجاهين المنفتح – المتحفظ، وتكون ثماني أنماط شخصية محتملة.

صاحب التفضيل المنفتح (Extraversion)، ويرمز له بالحرف الأول من الكلمة (E)، وهو الشخص الذي يستمد طاقته من الخارج، أي الحصول على الطاقة من تفاعله من الأشخاص والأشياء والأحداث في العالم الخارجي، كما يوجه طاقته إلى الخارج.

أما صاحب التفضيل المتحفظ (Introversion) ويرمز له (I)، فهو الذي يستمد طاقته من داخله، وذلك من خلال التأمل والتفكير والتعمق في عالمه الداخلي

أما صاحب التفضيل الحسي فيقوم بعملية جمع المعلومات الحسية (Sensing)، ويعطى الحرف (S)، ويحدد إلى ماذا يوجه الاهتمام أولاً، ويصرف الانتباه، إلى ما هو موجود؟ أي المعلومات التي يستطيع جمعها بوساطة الحواس الخمس: (الحقائق والوقائع)، والتوجه للوقت الحاضر.

في حين أن صاحب التفضيل الحدسي (iNtuition)، ويعطى الحرف الثاني كرمز له (N)، يوجه الاهتمام أولاً إلى ما يمكن أن يكون إلى الحدس والارتباطات والنماذج والانطباع والخيال – الحاسة السادسة – والتوجه للمستقبل.

صاحب التفضيل المفكر (Thinker) ويعطى الحرف (T)، فهو الذي يميل لإصدار القرارات عن طريق المبادئ الموضوعية المنطقية (تفكير المنطقي المادي)، أو السبب والنتيجة.

وأما صاحب التفضيل الوجداني (Feeler) فيعطي الحرف (F)، ويميل لإصدار القرارات عن طريق الأخذ بعين الاعتبار تأثير كل خيار من الخيارات، على الناس المعنيين بهذه القرارات (التفكير المنطقي الإنساني).

كما أن المفكر لديه مشاعر، والوجداني يستطيع التفكير، فهذا الزوج من التفضيلات هو القادر على كيفية اختيار سلوك ما، وإنشاء القوانين، أو إصدار القرارات.

صاحب التفضيل الحاسم (J) (Judger)، فهو الذي يفضل التخطيط لعمله، والعمل وفقاً لما يخططه، وإنهاء الأعمال في وقتها.

في حين أن صاحب التفضيل التلقائي (P) (Perceiver)، يفضل ترك الأمور مفتوحة حتى اللحظات الأخيرة، والمقصود أنه ليس دائماً متلقياً، ولكنه يحب أن يظل منفتحاً لأي معلومات جديدة يستقبلها (Berens, 2001).

ويحدد نمط الشخصية باختيار تفضيل من كل بعد من أبعادها، ويصبح النمط مكوناً من أربعة أحرف Code مثل INFP أو ESTJ. ويصبح هناك 16 نمطاً للشخصية.

ثانيًا:

 بناء على نموذج كارل يونج السابق ذكره، وضع كل من بريغز ومايرز (Myers & Briggs, 1995) نظريتهم الخاصة حول النمط النفسي، بالاستناد إلى مفاهيم يونغ الأصلية، وهي النظرية التي يقوم عليها مؤشر مايرز-بريغز للأنماط. وصف عالم النفس هانز آيزنك مؤشر مايرز-بريغز للأنماط بأنه قياس كمي ناجح نسبيًا لمبادئ يونغ الأصلية.

ومع تطور المجالات الاقتصادية والتجارية، واحتياج أصحاب الأعمال لوسائل تقيس طبيعة الموظف المتقدم للعمل، ومدى مناسبته للعمل، حصل توظيف واسع لهذا النموذج في قطاع إدارة الأعمال، وعادة ما تحظى النماذج التي تنتشر في قطاع الإدارة والأعمال باهتمام وتقدير واسعين.

 ثالثًا:

 توجد عدة مدارس أخرى في استقراء أنماط الشخصية، بعضها أقل في الدقة العلمية، مثل نموذج الإنياجرام، وبعضها قد يفوق في دقته العلمية مؤشر مايرز بريغز، مثل نموذج العوامل الخمسة الكبرى (الانبساط- الطيبة- يقظة الضمير- الثبات والاتزان الانفعالي- الثقافة).

ووصف "العلمية" الذي استعملناه هنا هو وصف نسبي، فلا يمكن وصف هذه النماذج بأنها علمية، بمعنى الدقة التجريبية، ولكن المقصود أنها تستعمل وسائل قياس نفسية، ترتكز على مجموعة من الأسئلة المضبوطة معياريًا، والتي يجيب عنها الشخص واصفًا سلوكه، وردود فعله تجاه مواقف مختلفة، وعلى أساس أجوبته يقوم النموذج بتحديد نمط الشخص، وسمات شخصيته.

وهذا التحديد ليس دقيقًا بنسبة مائة بالمائة، وكثيرًا ما يصف الشخص بأشياء ليست فيه، لكنه كذلك ينجح في تحديد سمات وطباع عامة للشخص.

وهذا التفاوت في الصدق راجع غالبا، لتعقيد النفس البشرية، وليس بالضرورة راجعًا لغياب العلمية عن هذه الاختبارات والمقاييس والنماذج.

رابعًا:

تقودنا النقطة السابقة إلى نتيجة مهمة، وهي أن نماذج أنماط وسمات الشخصية، تنتمي إلى عالم وسائل القياس النفسي والسلوكي، ولا تنتمي إلى عالم الغيب والكهانة، لكنها أقل في الدقة والمعيارية العلمية من نماذج ومقاييس النفس أخرى، نظرًا لتعقيد السلوك الإنساني، ونظرًا لعدم انضباط منهجية إجابة الشخص على الأسئلة، واعتماد الأجوبة على استكشافه لنفسه، ووعيه بذاته وسلوكه، وهو الاستكشاف والوعي الذي لا يتوفر لكل الناس، في كل المواقف.

ويمكننا القول إن نماذج أنماط وسمات الشخصية: أقرب إلى علم الفراسة.

وهو عِلْمٌ تُـتَعرَّف منه أخلاق الإنسان: من هيئته ومزاجه وتوابعه، وحاصله الاستدلال بالخَلْق الظَّاهر على الخُلق الباطن  
وقيل: الفِرَاسَة هي الاستدلال بالأمور الظَّاهرة على الأمور الخفيَّ.

قال الهروي عن الفراسة: "هو استئناس حكم غيبٍ، من غير اسْتِدْلَال بشَاهِد، ولا اختبار بتجربة".

وتزيد هذه النماذج عن الفراسة بكون وسائل القياس والكشف فيها: أظهر وأوضح من وسائل الكشف في الفراسة.

وتزيد الفراسة عن هذه النماذج بأن فيها عاملًا إيمانيًا، يجعل من الفراسة الناجحة شيئًا من الإلهام الإلهي، وهو مكوِّن غائب عن هذه النماذج الغربية.

‏قال ابن القيِّم رحمهُ الله: "الفِراسة الإيمانيّة: سببها نورٌ يقذفه الله في قلب عبده، يفرِّق به بين الحقِّ والباطل، والصّادق والكاذب. وهذه الفِرَاسَة على حسب قوّة الإيمان، وكان أبو بكر الصِّدِّيق أعظم الأمّة فِرَاسَة" انتهى من "مدارج السالكين"(453/2).

وبالتالي فلا حرج في استخدام هذه النماذج لفهم الذات والآخرين بضوابط مهمة، وهي:

أولًا: الوعي بأنها ظنية، وفي درجة منخفضة من الظن أيضا، لا تصل نتائجها لأن تكون غلبة ظن بالذات في فهم الآخرين؛ فإذا كان وعي الإنسان بنفسه عرضة للخطأ، فوعيه بالآخرين وسلوكهم عرضة لذلك بشكل أكبر.

ثانيًا: ألا يتوسع الإنسان في الحكم على الآخرين بهذه الوسائل إلا لحاجة معتبرة، مثل التوظيف، أو اختيار زوج، أو نحو ذلك؛ فالإنسان يتلمس من القرائن ما يستطيع، كي لا يتورط في علاقة تضره، ولا حرج في استخدام هذه النماذج كقرينة مع الوعي بظنيتها.

ثالثًا: ألا تستخدم كوسيلة للغيبة والنميمة والبهتان، وذكر الناس بما لا يحبون أن يُذكروا به.

ونختم بأمر شديد الأهمية:

الهوس بهذه النماذج والذي ذكرته في سؤالك، موجود، وهو ظاهرة سيئة، نابعة من رغبة الإنسان في التحكم في العالم، ورغبته في السيطرة على المتغيرات، فهو لا يستطيع التعامل مع كون الشخصيات والعلاقات فيها درجة من الظنية والغموض، وأن الإنسان معرض دائمًا للخطأ في فهم الناس، وللخطأ في اختيار العلاقات، فبدلًا من احتمال غموض الحياة، وإقامة العلاقات على الجمع اللطيف بين حسن الظن، والحذر، في آن واحد؛ يحاول هؤلاء استخدام هذه النماذج بشكل هوسي، وكأنها دراسات علمية مُخْتبرية، تعطيهم يقينًا في تصنيف الناس، وهذا غير صحيح ويُخشى منه أن يصل بالإنسان لبهتان الناس وغيبتهم ورميهم بما ليس فيهم.

فالاستخدام المحدود لهذه النماذج، بقدر الحاجة، مع الوعي بظنيتها الشديدة: لا حرج فيه؛ وليس من الرمي بالغيب أو الكهانة، لكنها كذلك ليست علمًا دقيقًا، بل هي أشبه بالفراسة، وبالتالي فالتوسع فيها والهوس بها يوقع الإنسان فيما لا تحمد عقباه.

ويرجى النظر إلى أجوبة هذه الأسئلة: (349310 )، و(283894)، (111047)، (145729).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب