الاكتفاء بمسح بعض الرأس: قول متعبر عند الفقهاء، على خلاف بينهم في تحديد هذا البعض المطلوب أو عدم تحديده.
هل وضوء من يمسح بعض الرأس في الوضوء ويتلفظ بالنية صحيح؟!
السؤال: 433610
هنالك صنف من النساء جاهلات، وكما تعلّمن من علمائهم الضالين في كتبهم بخصوص الوضوء، لا يمسحن على الشعر، بل يأخذن الاصبع الواحد ويمررنه على مفترق الشعر بعد غمس الأصبع في الماء، مع التلفظ بالنية كذلك جهرا.
السؤال:
هل وضوؤهن هذا يعدُّ صحيحا حيث ستذهب به الصلاة ؟ أم لا؟
ملخص الجواب
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أولاً: صفة مسح الرأس للرجل والمرأة:
ورد في السنة صفتان لمسح الرأس، وفعل أيٍّ من هاتين الصفتين: مسنون، وليس بواجب.
الصفة الأولى:
أن يضع يديه، بعد بلهما بالماء، على مقدم الرأس، ثم يمسح رأسه حتى قفاه، ثم يعود بيديه إلى مقدم رأسه.
وقد ثبت ذلك في عدة أحاديث، منها ما رواه عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (...، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ) رواه البخاري (185)، ومسلم (235).
قال النووي: "قوله (فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر): هذا مستحب باتفاق العلماء فإنه طريق إلى استيعاب الرأس ووصول الماء إلى جميع شعره". انتهى، من "شرح النووي على مسلم" (3/ 123).
الصفة الثانية: يمسح جميع رأسه، ولكن باتجاه الشعر، بحيث لا يغير الشعر عن هيئته.
وهذه الصفة تناسب من رجَّل شعره على نحو ما ، أو كان له هيئة لا يحب أن يتغير الشعر عنها.
فعن الرُّبَيِّعِ بنت معوذ رضي الله عنها في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (... فَمَسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ مِنْ قَرْنِ الشَّعْرِ، كُلَّ نَاحِيَةٍ لِمُنْصَبِّ الشَّعْرِ، لا يُحَرِّكُ الشَّعْرَ عَنْ هَيْئَتِهِ) رواه أبو داود (128). وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" (119).
المراد بـ (قرن الشعر) هنا أعلى الرأس، أي: يَبْتَدِئ الْمَسْح مِنْ الأَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ.
(كُلّ نَاحِيَة): أَيْ فِي كُلّ نَاحِيَة، بِحَيْثُ يَسْتَوْعِب مَسْح جَمِيع الرَّأْس عَرْضًا وَطُولا.
(لِمُنْصَبِّ الشَّعْر): الْمَكَان الَّذِي يَنْحَدِر إِلَيْهِ وَهُوَ أَسْفَلَ الرَّأْس.
قال العراقي: والمعنى: أنه كان يبتدىء المسح بأعلى الرأس، إلى أن ينتهي بأسفله، يفعل ذلك في كل ناحية على حِدَتِها".
وقال ابن رسلان: "وهذه الكيفية مخصوصة بمن له شعر طويل، إذ لو ردَّ يده عليه، ليصل الماء إلى أصوله: ينتفش، ويتضرر صاحبه بانتفاشه، وانتشار بعضه " انظر: "عون المعبود شرح سنن ابي داود، وحاشية ابن القيم" (1/ 149).
ثانيًا: القدر الواجب والمجزئ في مسح الرأس:
اختلف العلماء في القدر الواجب في مسح الرأس على قولين:
القول الأول: وجوب مسح جميع الرأس، وهو مذهب المالكية والحنابلة.
قال ابن النجار رحمه الله في كلامه عن فروض الوضوء:
"الثالث: مسح الرأس كله، قال في " الإنصاف ": هذا المذهب بلا ريب. وعليه جماهير الأصحاب، متقدمهم ومتأخرهم" انتهى من "شرح منتهى الإرادات" (1/ 251).
القول الثاني: أنه يكفي مسح بعض الرأس، وهو مذهب الحنفية والشَّافعية، ورواية عن الإمام أحمد، وبعض المالكية.
فحده الأحناف بالربع، وأنّ القدر الذي يكون به المسح: ثلاثة أصابع؛ فأكثر.
وأما الشافعية فلم يحدوا في الماسح ولا في الممسوح حدا.
قال ملا خسرو رحمه الله:
"فرض الوضوء" غسل الوجه، واليدين، والرجلين، ومسح ربع الرأس" انتهى من "درر الحكام شرح غرر الأحكام" (1/ 6).
وقال الشافعي رحمه الله:
"قال الله تعالى وامسحوا برءوسكم: وكان معقولا في الآية أن من مسح من رأسه شيئا، فقد مسح برأسه، ولم تحتمل الآية إلا هذا، وهو أظهر معانيها. أو مسح الرأس كله.
ودلت السنة على أنْ: ليس على المرء مسح الرأس كله.
وإذا دلت السنة على ذلك؛ فمعنى الآية: أن من مسح شيئا من رأسه أجزأه".
وقال: "إذا مسح الرجل بأي رأسه شاء، إن كان لا شعر عليه، وبأي شعر رأسه شاء؛ بأصبع واحدة، أو بعض أصبع، أو بطن كفه، أو أَمَر من يَمسح به= أجزأه ذلك.
فكذلك إن مسح نزَعتيه، أو إحداهما، أو بعضهما: أجزأه؛ لأنه من رأسه" انتهى من "الأم" للإمام الشافعي (1/ 41).
ثم إن الشافعية اشترطوا أن يكون هذا القدر مما هو في حدود الرأس، لا في الشعر النازل منه.
قال الشربيني رحمه الله:
"مسح بعض الرأس بما يسمى مسحا ولو لبعض بشرة رأسه أو بعض شعرة ولو واحدة أو بعضها في حد الرأس بأن لا يخرج بالمد عنه من جهة نزوله فلو خرج به عنه منها لم يكف حتى لو كان متجعدا بحيث لو مد لخرج عن الرأس لم يكف المسح عليه قال تعالى وامسحوا برؤوسكم وروى مسلم "أنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى عمامته" واكتفى بمسح البعض فيما ذكر لأنه المفهوم من المسح عند إطلاقه" انتهى من "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" (1/ 44).
قال ابن رشد رحمه الله:
"اتفق العلماء على أن مسح الرأس من فروض الوضوء.
واختلفوا في القدر المجزئ منه:
فذهب مالك إلى أن الواجب مسحه كله.
وذهب الشافعي، وبعض أصحاب مالك، وأبو حنيفة: إلى أن مسح بعضه هو الفرض.
ومن أصحاب مالك: من حد هذا البعض بالثلث، ومنهم من حده بالثلثين.
وأما أبو حنيفة فحده بالربع. وحد، مع هذا: القدرَ من اليد الذي يكون به المسح؛ فقال: إن مسحه بأقل من ثلاثة أصابع لم يجزه.
وأما الشافعي فلم يحُدَّ في الماسح، ولا في الممسوح، حدا" انتهى من "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (1/ 19).
وقال ابن قدامة رحمه الله:
"وروى عن أحمد: يجزئ مسح بعضه. قال أبو الحارث: قلت لأحمد: فإن مسح برأسه وترك بعضه؟ قال: يجزئه. ثم قال: ومن يمكنه أن يأتي على الرأس كله! وقد نقل عن سلمة بن الأكوع، أنه كان يمسح مقدم رأسه، وابن عمر مسح اليافوخ. وممن قال بمسح البعض الحسن، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي" انتهى من "المغني" (1/ 175 ت التركي).
ولكل قول أدلته المعتبرة، ولمزيد فائدة ينظر الفتاوى التالية في الموقع: (296162)، (286273)، (45867).
ثالثا: التلفظ بالنية:
أما ما أشرتِ إليه من أنهن يتلفظن بالنية، فالقول الراجح أنّ التلفظ بالنية غير مشروع، ولكن من يفعل ذلك، إنما يقلد من قال به من أهل العلم.
قال النووي -من أئمة الشافعية- رحمه الله تعالى: " النية الواجبة في الوضوء هي النية بالقلب ، ولا يجب اللفظ باللسان معها، ولا يجزئ وحده ، وإن جمعهما فهو آكد وأفضل، هكذا قاله الأصحاب واتفقوا عليه" انتهى من "المجموع" (1/ 316).
وقال العلامة الدردير -من أئمة المالكية- رحمه الله تعالى:" تلفظ المصلي بما يفيد النية ، كأن يقول : نويت صلاة فرض الظهر مثلاً، (واسع) أي : جائز ، بمعنى خلاف الأولى، .... والأولى أن لا يتلفظ ، لأن النية محلها القلب ، ولا مدخل للسان فيها" انتهى من "الشرح الكبير للشيخ، وحاشية الدسوقي" (1/ 234).
رابعًا : احترام العلماء وتقدير المخالف
مما سبق تعلمين أن ما تفعله الأخوات اللاتي ذكرتِ في سؤالك قد قال به بعض العلماء؛ بغض النظر عن الراجح والمرجوح في نفس الأمر، فالعامي وشبهه: يكفيه أن يقلد العالم الذي أفتاه، أو علمه، أو يمشي على المذهب الذي تعلمه ونشأ عليه.
فلا يليق وصف من نختلف معه في المسائل الفقهية، التي يسوغ فيها الاجتهاد: بأنهم ضالون، فهذا خلاف الأدب مع العلماء .
ولازال الأئمة الكبار يذكرون في كتبهم الأقوال الأخرى في المسألة، ويدللون ويرجحون، وربما ذكروا الأقوال ولم يرجحوا لقوة أدلة الفريقين، وهذا إقرار منهم على أنّ الاختلاف سائغ.
فعلى طالب العلم أن يقف حيث وقف الأئمة، ويحترم أقوالهم وينزلهم منزلتهم. ويترفع عن مثل هذه الألفاظ لمن يخالفه في الرأي والاجتهاد.
وقد ألّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً نافعاً عن أسباب اختلاف العلماء، وأعذارهم في هذا الخلاف، يحسن الرجوع إليه، وهو (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).
وفي الموقع إجابات نافعة في بيان هذا الأمر، وأسبابه، وكيفية التعامل معه، يحسن الرجوع إليها.
والله أعلم.
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟