أولا :
يجوز للمظلوم أن يدعو على من ظلمه ، أو يسبه بما فيه من الصفات السيئة ، كقوله : يا فاسق، أو يا ظالم ... ونحو ذلك مما هو متصف به ، لقول الله تعالى: لَاْ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيْعًا عَلِيْمًا النساء/148.
قال السعدي رحمه الله في تفسيره (ص/212) : "يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، أي : يبغض ذلك ، ويمقته ، ويعاقب عليه ، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن : كالشتم ، والقذف، والسب ونحو ذلك ، فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله .
ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول : كالذكر ، والكلام الطيب الليِّن .
وقوله : (إِلا مَن ظُلِمَ) أي : فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى منه ، ويجهر بالسوء لمن جهر له به ، من غير أن يكذب عليه ، ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه ، ومع ذلك فعفوه وعدم مقابلته أولى ، كما قال تعالى : (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)" انتهى.
والعفو عن الظالم ومسامحته أفضل من الدعاء عليه وسبه ، لقول الله تعالى: وَٱلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ . وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ الشورى/ 39-40.
قال السعدي في تفسيره ( ص 760) : "وفي جعل أجر العافي على الله : تهييج على العفو ، وأن يعامل العبدُ الخلقَ بما يحب أن يعامله الله به ، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فليعف عنهم ، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم ؛ فإن الجزاء من جنس العمل" انتهى .
وقال القرافي رحمه الله تعالى:
" وأما الدعاء - على الظالم - فقد قال مالك وجماعة من العلماء بجوازه ، والمستند في ذلك قوله تعالى ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) .
لكن الأحسن الصبر والعفو ، لقوله تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ، أي: من معزومها ومطلوبها عند الله.
فإن زاد في الإحسان على ذلك ، بأن دعا له بالإصلاح ، والخروج عن الظلم : فقد أحسن إلى نفسه ، بمثوبة العفو ، وتحصيل مكارم الأخلاق ، وإلى الجاني بالتسبب إلى إصلاح صفاته ، وإلى الناس بالتسبب إلى كفايتهم شره، فهذه ثلاثة أنواع من الإحسان لا ينبغي أن تفوت اللبيب " انتهى من "الفروق" (4 / 292 - 293).
ثانيا :
الدعاء على الظالم أو سبه نوع من القصاص ، فجب فيه العدل ، فلا يبالغ المظلوم في الدعاء ، والسب حتى لا ينقلب الأمر ، ويصير هو الظالم بعد أن كان مظلوما .
قال الإمام أحمد رحمه الله : "الدعاء [يعني : على الظالم] قصاص" انتهى من "الفروع" (7/267) .
وقال القرافي رحمه الله تعالى:
"وحيث قلنا بجواز الدعاء على الظالم ... تدعو عليه بأنكاد الدنيا ، ولا تدعو عليه بمؤلمة لم تقتضها جنايته عليك ؛ بأن يجني عليك جناية ، فتدعو عليه بأعظم منها، فهذا حرام عليك؛ لأنك جان عليه بالمقدار الزائد ، والله تعالى يقول : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) .
فتأمل هذه الضوابط ، ولا تخرج عنها" انتهى من "الفروق" (4 / 294).
وقال الخطيب الشربيني رحمه الله : " إذا سب إنسانٌ إنسانا ، جاز للمسبوب أن يسب الساب بقدر ما سبه ، لقوله تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) .
ولا يجوز أن يسب أباه ولا أمه ... وإنما يجوز السب بما ليس كذبا ولا قذفا ، كقوله : يا ظالم ، يا أحمق ، لأن أحدًا لا يكاد ينفك عن ذلك .
وإذا انتصر بسبه فقد استوفى ظلامته ، وبرئ الأول من حقه ، وبقي عليه إثم الابتداء ، أو الإثم لحق الله تعالى " انتهى ." مغني المحتاج " (4/157).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (138629)، ورقم: (394077).
فعلى هذا ؛ فمن دعا على من ظلمه ، أو سبه ، فقد اقتص لنفسه ، فإن كان هذا الدعاء والسب بمقدار مظلمته ، فقد استوفى حقه ، ولم يبق له حق يستوفيه يوم القيامة ، وإن كان أكثر ، صار هو الظالم المعتدي ، وإن كان أقل ، بقي له شيء من الحق يستوفيه من حسنات الظالم يوم القيامة .
ولك ثواب على استغفارك له.
والنصيحة لك ما دام الأمر قد انكشف ؛ أن تسكتي عن هذا الظالم ، وتكفي عن ذكره بسوء ، والأكمل من ذلك : أن تسامحيه إن كان قد بقي لك عنده حق ، لعل ذلك يكون سببا لأن يعفو الله عنك ويسامحك .
والله أعلم.