أولا:
اختلف العلماء في طاعة الوالدين في الشبهات ، فذهب بعضهم إلى أنه لا طاعة لهما في ذلك.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
"اختلف العلماء: هل يطيع والديه في الدخول في شيء من الشبهة، أم لا يطيعهما؟
فروي عن بشر بن الحارث قال: لا طاعة لهما في الشبهة.
وعن محمد بن مقاتل العبَّاداني قال: يطيعهما.
وتوقف أحمد في هذه المسألة، وقال : يداريهما ، وأبى أن يجيب فيها" انتهى . "جامع العلوم والحكم" (1/206) .
وذهب أكثر العلماء إلى أنه يجب طاعة الوالدين في الشبهات ، وعللوا ذلك بأن طاعة الوالدين واجبة ، وترك الشبهات مستحب ، والواجب مقدم على المستحب .
قال القرافي رحمه الله في "الفروق" (1/329) في الفرق الثالث والعشرين :
"قال الغزالي في الإحياء: أكثر العلماء على أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات دون الحرام، فإن كرها انفراده عنهما في الطعام، وجبت عليه موافقتهما، ويأكل معهما، لأن ترك الشبهة مندوب ، وترك طاعتهما حرام، والحرام مقدم على المندوب" انتهى.
وكلام الغزالي موجود في "إحياء علوم الدين" (2/199) .
وقال الخادمي في كتابه "البُرَيْقة المحمودية في شرح الطريقة المحمدية" (4/184) :
"إذا أمراه أطاعهما، ما لم يؤمر بالمعصية، وأما في الشبهات فاختلف ، فالأكثر الإطاعة، لأن ترك الشبهة ورع، ورضا الوالدين حتم" انتهى.
ثانيا :
أما معنى الشبهات هنا ، فإنها تفسر بما فسر به العلماء حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ ، وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ) رواه البخاري ومسلم (1599) .
فهذا الحديث قسم الأشياء من حيث الحل والحرمة إلى ثلاثة أقسام :
الأول : الحلال المحض ، كأكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام ، وكلباس القطن والصوف ، وكالنكاح ... إلخ .
القسم الثاني : الحرام المحض، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر ، ولبس الحرير والذهب للرجال ، وكالربا والميسر والسرقة والغصب والغش .
القسم الثالث : المشتبهات مثل ما اختلف في حله أو تحريمه ، كأكل لحم الخيل .
ولبس ما اختلف في إباحته، كجلود السباع ، ومن المكاسب المختلف فيها كمسائل العينة والتورق.
وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة .
والحديث يبين أن الأمور المشتبهة هي ليست مشتبهة في نفس الأمر ، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها ، أما من علمها فهي واضحة بينة عنده وليست مشتبهة ، فتكون عنده من قسم الحلال المحض ، أو الحرام المحض .
وفسَّر الإمام أحمد تارةً المشتبهات باختلاط الحلال والحرام .
ومن فروع هذا : من اختلط في ماله الحلال بالحرام .
فإن كان أكثر ماله الحرام ، فقال أحمد : ينبغي أن يجتنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا ، واختلف أصحاب أحمد : هل هو مكروه أو محرم ؟ على وجهين .
وإن كان أكثر ماله الحلال ، جازت معاملته والأكل من ماله .
ورخص جماعة من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ، ما لم يعلم أنه يأكل من الحرام بعينه ، وهو قول الزهري ومكحول والفضيل بن عياض ، وثبت ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه .
وبكل حال ، فالأمور المشتبهة هي الأمور التي لا يتبين أنها حلال ولا حرام .
ويكون ذلك لتعارض الأدلة عند المسلم ، أو لاختلاف العلماء ، أو لاختلاط الحلال والحرام.
فمن لا يعلم حكمها فهي مشتبهة بالنسبة له ، ومن علم حكمها فليست مشتبهة بالنسبة له .
ينظر في شرح الحديث وبيان معنى "المشتبهات" : جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ، الحديث السادس .
وقال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: "وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء:
أحدها تعارض الأدلة كما تقدم.
ثانيها: اختلاف العلماء، وهي منتزعة من الأولى.
ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه، لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك.
رابعها: أن المراد بها المباح، ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.
ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري، عنه، أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه، وهو منزع حسن" انتهى، من "فتح الباري" لابن حجر (1/ 127 ط السلفية).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"فوائد هذا الحديث:
أن الأشياء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حلال بين، حرام بين، مشتبه، وحكم كل نوع ومثاله أن نقول:
* الحلال البين لا يلام أحد على فعله، ومثاله التمتع بما أحل الله من الحبوب والثمار، فهذا حلال بين ولا معارض له.
* الحرام البين وهذا يلام كل إنسان على فعله، ومثاله كالخمر والميتة والخنزير وما أشبه ذلك، فهذا حكمه ظاهر معروف.
* وهناك أمور مشتبهة: وهذه محل الخلاف بين الناس، فتجد الناس يختلفون فيها فمنهم من يحرم، ومنهم من يحلل، ومنهم من يتوقف، ومنهم من يفصل.
مثال المشتبه: شرب الدخان كان من المشتبه في أول ظهوره، لكن تبين الآن بعد تقدم الطب، وبعد أن درس الناس حال هذا الدخان قطعا بأنه حرام، ولا إشكال عندنا في ذلك، وعلى هذا فالدخان عند أول ظهوره كان من الأمور المشتبهة ولم يكن من الأمور البينة، ثم تحقق تحريمه والمنع منه". "شرح الأربعين النووية" (ص 124) .
ثالثا :
وبناء على ما سبق فيمكن تفسير المشتبهات التي يطاع فيها الوالدان بما ذكره العلماء في شرح هذا الحديث .
منها : إذا كان مال الوالد اختلط فيه الحلال بالحرام ، فإن الورع ترك الأكل من ماله ، ولكن إذا كان ذلك يغضب الوالد ، فإن الولد يأكل معه ولا حرج عليه ، وهذه الصورة هي التي ذكرها الغزالي ونقلها عنه القرافي رحمهما الله .
واختلاط المال الحلال بالحرام له صور كثيرة ، كما لو كان الوالد تاجرا ويغش في المعاملة ، أو يكذب ، أو يخدع الناس ، أو كان يتعامل بالربا ، أو يبيع أشياء محرمة ، وأخرى حلالا .
فلا حرج على الولد في هذه الصور أن يأكل من مال والده .
ومن جملة هذه المتشابهات: ما وقع فيه خلاف سائغ بين الفقهاء، كما سبق في كلام الحافظ ابن رجب، رحمه الله.
وقال ابن الحاج المالكي، رحمه الله: "والمتشابه: ما اختلف العلماء فيه" انتهى، من "المدخل، لابن الحاج" (4/ 163).
وعلى ذلك؛ فلا حرج على الولد في أن يعمل بقول معتبر مما اختلفوا فيه؛ إذا كان فيه طاعة لوالديه.
والله أعلم.