الحمد لله.
أولًا:
مهما اجتهد الإنسان في اختيار زوجته، فهو بلا شك معرض لعدم نجاح العشرة بينهما سواء للسبب الذي ذكرته أو لأسباب أخرى، ويحدث هذا مع جودة معدن وصلاح دين وحسن أخلاق الطرفين؛ فإنه لا سلطان على القلوب، ولا على ما تجده النفس من راحة وألفة.
وحصول هذا يُدخل على الإنسان الهم والغم، وقد ينقله لخيارات تُضر به وبجودة عيشه على المدى البعيد.
إن الله فطر الإنسان على حب البنين، يقول تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الكهف/46.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: تَزَوَّجوا، فَإِنِّي مُكاثِرٌ بكُمُ الأُمَمَ، ولا تَكونوا كَرَهبانيَّةِ النَّصارَى أخرجه البيهقي في "السنن" (١٣٥٨٦)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2941).
وإذا وجد الإنسان في نفسه رغبة عن الولد، فغالبًا ما يكون هذا لعوارض أثرت على توجهه الفطري الذي طبعه الله عليه؛ لأجل ذلك يُشرع له أن يسعى في مداواة ذلك.
وقد ذكرت في سؤالك رغبتك في انقطاع نسلك، وهذا يُشعرنا أن المشكلة أكبر من عدم رضاك عن زوجتك، فإن الإنسان قد لا يرضى زوجه ولكنه لا يزال يحب النجاح في الزواج والعشرة الحسنة والولد الصالح، ولعل مثل هذا إن فارق زوجته، أن يغني الله ويغنيها أيضا من سعته، وربما تزوج أخرى وعدل بينهما، وأعانته هذه على إحسان عشرة تلك.
لكن اتخاذ عدم التوفيق في زواجك، أو عدم التقبل لزوجتك، تعلة للإعراض عن الولد بالمرة، ليس سلوكًا طبيعيًا، ولا سويا، ولا هو أيضا قرار موفق.
وبحسبنا أن نقترح عليك الآن، إن لم تستطع تقبل زوجتك، والتأقلم معها: أن تتزوج أخرى، إن كنت قادرا على ذلك، ودع هذه، وما اختارت من الأثرة على نفسها، فلعل الله أن يصلحك لها، ويبارك لكما في عيشكما.
فنرجو أن تعيد النظر في أمرك، وأن تستشير من تثق بعقله ودينه، وقبل ذلك ومعه وبعده نرجو أن تدعو الله أن يلهمك رشدك ويشرح صدرك ويهديك إلى سواء السبيل.
ثانيًا:
لا شك أنك لا تقصد إلى إيذاء زوجتك وضرها، فكما تقدم لا سلطان على قلب المرء وميل نفسه، وما عرضته على زوجتك من ترك الإنجاب فيه ضرر وأذى لها، مع علمنا أنك لا تقصد الضرر والأذى.
وبكل حال؛ فالصواب أنه لا يحل للزوجين أن يتراضيا على قطع النسل بينهما. وقد سبق بيان أن هذا الشرط لا يحل في جواب السؤال رقم: (166680).
نعم يجوز التراضي على عدم الإنجاب لفترة مؤقتة، أو لعذر معين؛ لكن اتخاذ قرار دائم كهذا ليس حسنًا.
وانظر الأعذار في جواب السؤال رقم: (272985 ).
جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي:
" إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 - 6 جمادى الآخر 1409هـ الموافق10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م ، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تنظيم النسل، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل، والحفاظ عليه، والعناية به، باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها = قرر ما يلي :
أولا : لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب .
ثانيا : يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم، ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية .
ثالثا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب، بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان، إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعا، بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم " انتهى.
وقد سبق في إجابة السؤال رقم: ( 21169 ) أن منع الحمل منعاً مستمراً حرام .
غير أنه يستثنى من ذلك ما دعت إليه الضرورة، كما هي قاعدة الشريعة في جميع المحرمات – أنها تباح للضرورة – قال الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ الأنعام/ 119.
فإذا كانت المرأة ضعيفة أو مريضة يضرها الحمل أو يُخشى عليها بسببه: جاز لها أن تستعمل ما يمنع الحمل .
وقد جاء في بحث أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء قولهم :
" وعلى هذا: يكون تحديد النسل محرماً مطلقاً، ويكون منع الحمل محرماً إلا في حالات فردية نادرة لا عموم لها، كما في الحالة التي تدعو الحامل إلى ولادة غير عادية، ويضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، وفي حالة ما إذا كان على المرأة خطر من الحمل لمرض ونحوه، فيستثنى مثل هذا منعاً للضرر، وإبقاء على النفس، فإن الشريعة الإسلامية جاءت بجلب المصالح ودرء المفاسد، وتقديم أقوى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين عند التعارض" انتهى من "مجلة البحوث الإسلامية" (5/127).
ونرجو أن تجاهد نفسك، وتعطي زوجتك حقوقها الأخرى، ما دامت راضية بك، راغبة في دوام العشرة معك؛ فإن عزوفك القلبي عنها لا يسوغ أن تمنعها باقي حقوقها من فراش وغيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً؛ إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ) أخرجه مسلم (1469).
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله مخاطبًا رجلًا لا يحب زوجته:
"إذا رحمتها، وصبرتَ عليها: فأنت مأجورٌ، والله يقول: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ النساء/19، والنبي ﷺ يقول: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء)، فإذا صبرتَ عليها، واجتهدتَ في أداء حقِّها، وإظهار المحبَّة لها، والرفق، وإعطاء حق العشرة؛ فأنت مأجورٌ على ذلك.
وإن لم تستطع وطلَّقتها فلا بأس، إذا رأيتَ أن تُطلقها طلِّقها طلقةً واحدةً، وهي تحفظ أولادها، وتقوم على أولادها، وتجعل أولادها عندها، وتُنفق عليهم، وترحمهم، وتعطف عليهم، لا بأس بذلك، أنت مُخَيَّرٌ.
لكن إذا استطعتَ أن ترحمها ما دامت تُحبُّك، وتعطف عليها، وتُبقيها في حبالك، وتؤدي ما استطعتَ، وإذا عجزتَ عن شيءٍ تقول لها: يا فلانة، أنا عاجزٌ عن هذا الشيء، سامحيني وإلا طلّقتُكِ، إن كنتَ تُريد ألا تَقْسِم لها، إن كانت عندك زوجة أخرى وتريد أن تزورها في النهار أو في الليل، لكن ما تبيتُ عندها، تقول: يا فلانة، إن سامحتِني فلا بأس، وإن أردتِ الطلاقَ فلا بأس، تُخيِّرها، وإلا فاصبر وأعطها حقَّها كاملًا وارحمها، وأنت مأجورٌ" انتهى، من موقع الشيخ رحمه الله.
ويقول الشيخ ابن عثيمين في حالة مشابهة: "الكراهة والمحبة ليست باختيار الإنسان، شيء يلقيه الله عز وجل في قلب العبد. وأما القيام بالواجب وترك القيام بالواجب: فهذا شيء باختيار العبد.
فنقول: كون الزوج يكرهها؛ لا علاج له إلا سؤال الله عز وجل أن يهديه، ويلقي في قلبه محبتها. وكونه لا يقوم بالواجب؛ هذا هو الذي يمكن علاجه، فالواجب على الزوج أن يقوم بما يجب لزوجته من المعاشرة بالمعروف، من الكسوة والإنفاق، قليله وكثيره دقيقه وجليله، والسكنى، ولا عذر له في ترك شيء منه.
وأما بالنسبة للزوجة: فيجب عليها أيضا أن تعاشر زوجها بالمعروف، وألا تتكره عند بذل ما يجب عليها له، وألا تماطل بذلك.
ولكن إذا كان زوجها لا يقوم بواجبها: فأول ما يُتَّخذ الإصلاح بينهما، بأن يؤتى بالرجل والمرأة ويذكرا بالله عز وجل ويخوفا منه، ويطلب منهما أن يقوم كل واحد منهما بما يجب لصاحبه، فإن حسنت الحال؛ فهذا هو المطلوب، وإن لم تحسن فليس إلا الفراق. لأن امرأة ثابت ابن قيس بن شماس رضي الله عنه جاءت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقالت: يا رسول الله ثابت ما أعتب عليه في خلق ولا دين، وفي لفظ ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، تعني أكره أن أبقى معه وأنا لا أقوم بحقه. فقال لها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (أتردين حديقته)؟ قالت نعم. فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لزوجها ثابت: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة).
ففعل فإذا كانت الحال غير مستقرة بين الزوجين، ولا يزيد بقاؤهما على النكاح إلا تعقيدا وشدة في الكراهة؛ فلا أحسن من الفراق، وفي الغالب أو أحيانا بعد الفراق يلقي الله المحبة في قلب كل واحد، فتجدهما يحاولان الرجوع" انتهى، من "فتاوى نور على الدرب" (19/2).
نسأل الله أن ييسر لكما أموركما، وأن يصلح بينكما، وألا يجعل للشيطان عليكم سبيلًا.
والله أعلم.
تعليق