الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

هل تحقق الوعيد في حديث النهي عن رفع البصر للسماء؟

480234

تاريخ النشر : 10-04-2024

المشاهدات : 4602

السؤال

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ‏(مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ)،‏ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ ‏"‏ لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ )‏‏.‏ هل حدث أن أصيب أحد في حياة النبي بالعمى؟هل يعني هذا الحديث أنَّ هناك فرصة 100٪ للإصابة بالعمى بفعل ذلك، أو بالأحرى أنَّ هذه عقوبة أعدَّها الله لبعض الناس الذين يفعلون ذلك؟ هل ينطبق أيضا على المؤمنين فقط، بحيث يكون الشخص الذي يتحدى هذا كافرا، وبالتالي لا يُصابُ بالعمى؟ ألا يمكن لشخص ما أن يفعل هذا عن قصدٍ، ثمَّ يقول انظُر لم يختف بصري؟ هل يعني ذلك أنَّ البصر يزول فورا عند القيام بذلك، أم يمكن أن يحدث أيضا بعد سنوات، أم هل يختفي فجأة، أم يمكن أن يختفي تدريجيا على مدى فترة من الزمن؛ لأنه عند الإصابة بالعمى عادة ما يعاني الأشخاص من مشاكل في بصرهم قبل أن يصابوا بالعمى التام؟

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ‏(مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ) فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ (لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ) أخرجه البخاري (750).

وقد ترجم عليه البخاري، رحمه الله: " بَابُ رَفْعِ البَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاَةِ ".

قال ابن بطال، رحمه الله: " العلماء مجمعون على القول بهذا الحديث وعلى كراهية النظر إلى السماء فى الصلاة، وقال ابن سيرين: كان رسول الله مما ينظر إلى السماء فى الصلاة، فيرفع بصره حتى نزلت آية إن لم تكن هذه فما أدرى ما هى: (الذين هم فى صلاتهم خاشعون) ، قال: فوضع النبى رأسه.

وقال شريح لرجل رآه رفع بصره ويده إلى السماء: اكفف يدك واخفض بصرك، فإنك لن تراه، ولن تناله.

وذكر الطبرى عن إبراهيم التيمى أنه قال: كان يكره أن يرفع الرجل بصره إلى السماء فى الدعاء، يعنى: فى غير الصلاة " انتهى، من "شرح صحيح البخاري" (2/364).

قال الفيومي في فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (4/ 6): قوله: "أو لتخطفن أبصارهم" هو بفتح الفاء وأو هنا للتخير وهو خبر في معنى الأمر، والمعنى: ليكونن منكم الانتهاء عن الرفع أو خطف الأبصار عند الرفع من الله تعالى، والخطف: استلاب الشيء وأخذه بسرعة انتهى.

وفي "المنهل العذب المورود" (6/8): "وفي هذا وعيد شديد على من فعل ذلك، ويؤخذ منه حرمة رفع البصر إلى السماء حال الصلاة؛ لأن العقوبة بالعمى لا تكون إلا عن محرّم. وبالغ ابن حزم فقال تبطل به الصلاة" . انتهى.

وقال المباركفوري، في "مرعاة المفاتيح" (3/349): "وفيه وعيد عظيم وتهديد شديد، وهو يدل على أن رفع البصر إلى السماء حال الصلاة حرام؛ لأن العقوبة بالعمى لا تكون إلا عن محرم، والمشهور عند الشافعية أنه مكروه، وبالغ ابن حزم فقال: تبطل الصلاة به".

واستظهر بعض محققي الشافعية تحريمه على العالم العامد.

قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (1/421): "قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالْوَجْهُ تَحْرِيمُهُ عَلَى الْعَامِدِ الْعَالِمِ بِالنَّهْيِ الْمُسْتَحْضِرِ لَهُ".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فلما كان رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع حرمه النبي صلى الله عليه وسلم وتوعد عليه" انتهى، من "القواعد النورانية" (ص 46).

وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين" (6/508):

"وهذا وعيد يدل على أنه يحرم على الإنسان أن يرفع بصره إلى السماء وهو يصلي، وقد رأيت بعض الناس إذا رفع من الركوع قال سمع الله لمن حمده رفع بصره ووجهه، وهذا حرام عليه حتى إن بعض العلماء رحمهم الله قال: إن فعل بطلت صلاته، لأنه ارتكب منهيا عنه نهيا خاصا في الصلاة، والقاعدة الشرعية أن من ارتكب شيئا منهيا عنه في العبادة بخصوصه فإن عبادته تبطل.

ثم إن هؤلاء عللوا بعلة ثانية، وقالوا: إن هذا سوء أدب مع الله والمطلوب من المرء وهو يصلي أن يخشع ويطأطئ رأسه.

وقالوا أيضا في التعليل: إن الإنسان مأمور بأن يستقبل القبلة بجميع بدنه، فإذا رفع بصره إلى السماء صار وجهه إلى السماء لا إلى القبلة، فتبطل صلاته.

فالمسألة على خطر، ولهذا اشتد قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى قال : ( لينتهن أو لتخطفن أبصارهم ) . انتهى.

وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (119576).

ثانيًا:

قد اختلف الشراح في معنى خطف الأبصار هنا، هل هو على معنى العمى؟ أم المقصود به خطفة معنوية.

قال القسطلاني، رحمه الله في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (2/ 81): (لتخطفن) بضم المثناة الفوقية، وسكون الخاء المعجمة وفتح الطاء والفاء، مبنيًّا للمفعول أي: لتعمين (أبصارهم). وكلمة: أو، للتخيير تهديدًا، وهو خبر بمعنى الأمر، أي: ليكوننّ منكم الانتهاء عن رفع البصر، أو تخطف الأبصار عند الرفع من الله. انتهى.

وقد صرح المناوي في "التيسير" (2/334)، بالاحتمالين، فقال: "ثم يحتمل كونها خطفة حسية، ويحتمل معنوية".

وعلى القول بأن خطف الأبصار هنا، خطف معنوي، لا حسي؛  فالمراد بذلك: أنه إذا رفع رأسه خشوعًا واعتبارًا، يتوجه بنظره إلى الله الذي في السماء، عاد إليه بصره بلا فائدة ولا نفع يرجى من ذلك.

قال ابن العربي في "القبس" (ص243): "وليس يريد بذلك إذهابها بالعمى، وإنما يشير به إلى ذهاب فائدتها من العبرة".

ثالثًا:

وأما أنه لا يعلم أن أحدا رفع بصره إلى السماء في الصلاة، فخطف بصره عقابا له على ذلك، فيقال:

أما إذا قلنا إن خطف البصر يقع حسا، ويقع عقب رفعه بحيث يعلم أنه عقاب له على ذلك العمل المنهي عنه؛ فنعم.

لكن يقال في الجواب عن ذلك:

أولا: سبق أن خطف الأبصار، يحتمل أن يكون خطفا معنويا، وحينئذ، فلا إشكال في الحديث.

ثانيا: لا مانع أن يكون من الناس من يعمى بصره عقابا له على ذلك، لكن على التراخي، ولا يقع عقب فعله مباشرة، وليس في لفظ الحديث ما يدل ضرورة على وقوع العقوبة عقب هذا الفعل، فقد يتراخى العقاب عن العمل، كما هو معلوم في سائر العقوبات على المعاصي.

ثالثا: هذا الحديث من أحاديث الوعيد، والمؤمنون هم المخاطبون به، دون الكفار؛ فإن الكافر لا يصلي أصلا؛ فكيف ينهى عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، وهو لا يصلي؟!

وحينئذ يمكن أن يقال: إن المؤمن قد يقع في مخالفة الأمر، ويدخل في الوعيد الوارد على المعصية أو المخالفة المعينة؛ ثم لا يقع الوعيد على الفاعل، لأسباب كثيرة ذكرها العلماء، وهذا من رحمة الله وتفضله على عباده.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"وما ورد من نصوص الوعيد المطلقة، كقوله تعالى : ( فسوف نصليه نارا ) ، فهو مبين ومفسر بما في الكتاب والسنة من النصوص المبينة لذلك ، المقيدة له . وكذلك ما ورد من نصوص الوعد المطلقة ، وكذلك بين أن الحسنات تمحو السيئات ، والخطايا تكفر بالمصائب وغيرها من العمل الصالح ، من غيره كالدعاء له والصدقة عنه والصيام والحج عنه" انتهى، من "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/129).

وينظر للفائدة.

وينظر للفائدة، حول بعض ما جرى للمستهزئين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

والله أعلم.
 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب