أولا:
ورد عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى بإلزام طلاق الثلاث لمن أوقع الثلاث جملة.
روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (10 / 106)، قال: حَدَّثَنا وَكِيعٌ، وَالْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي تحيا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِائَةً قَالَ: ( ثَلَاثٌ تُحَرِّمُهَا عَلَيْكَ، وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ عُدْوَانٌ ).
وفي إسناده مُعَاوِيَة بْن أَبِي تحيا، وهو مجهول.
ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (7 / 332)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (8 / 379)، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:
" معاوية بن أبى تحيا: روى عن عثمان رضي الله عنه، مرسل، روى عنه جعفر بن برقان، سمعت ابى يقول ذلك " انتهى. "الجرح والتعديل" (8 / 379).
وروى نحوه عبد الرزاق في "المصنف" (6 / 418 ): عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي عَدَدَ الْعَرْفَجِ؟ قَالَ:( تَأْخُذُ مِنَ الْعَرْفَجِ ثَلَاثًا، وَتَدَعُ سَائِرَهُ ).
قال إِبْرَاهِيمُ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو الْحُوَيْرِثِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وهذا خبر ضعيف الإسناد أيضا؛ لأن مداره على إبراهيم بن محمد، وقد ضُعِّف وتُرِك حديثه.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي: تركه جماعة وضعفه آخرون للرفض والقدر " انتهى. "المغني في الضعفاء" (1/23).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى
" إبراهيم ابن محمد ابن أبي يحيى الأسلمي، أبو إسحاق المدني: متروك " انتهى. "تقريب التهذيب" (ص93).
وأبو الحويرث: لا يروي عن عثمان رضي الله عنه، وأيضا قد ضُعِّف.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
"عبد الرحمن بن معاوية أبو الحويرث، عن ابن عباس. قال ابن معين وغيره: لا يحتج به. وقال مالك ليس بثقة. وروى عنه شعبة" انتهى. "المغني في الضعفاء" (2/ 387).
ثانيا:
وروي نحو هذا عن علي رضي الله عنه، من طرق عدة:
من طريق حبيب بن أبي ثابت:
روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (10/105)، والدارقطني في "السنن" (5/38): عن فُضَيْل بْن عِيَاضٍ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا؟ قَالَ عَلِيٌّ: ( يُحَرِّمُهَا عَلَيْكَ ثَلَاثٌ، وَسَائِرُهُنَّ اقْسِمْهُنَّ بَيْنَ نِسَائِكَ ).
وحبيب بن أبي ثابت لا يروي عن علي، ففي الإسناد انقطاع.
وقد وردت الواسطة بينه وبين علي رضي الله عنه، وهو راو مبهم لا يعرف.
روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (10 / 107)، قال: حَدَّثَنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب، عن رجل من أهل مكة، قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفًا. الخبر.
ورواه البيهقي في "السنن الكبير" (15/244): عن أبي نُعَيمٍ، عن الأعمَشِ، عن حَبيبِ بنِ أبي ثابِتٍ، عن بَعضِ أصحابِه قال: جاءَ رَجُلٌ إلَى عليٍّ رضي الله عنه فقالَ: طَلَّقتُ امرأتِى ألفًا. الخبر.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" قلت: فيه مجهول " انتهى. "المهذب في اختصار السنن الكبير" (6/2924).
ومن طريق ابن أبي ليلى:
روى البيهقي في "السنن الكبير" (15/244): عن أبي نُعَيمٍ الفَضلُ بنُ دُكَينٍ، حدثنا حَسَنٌ، عن عبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي لَيلَى، عن عليٍّ رضي الله عنه فيمَن طَلَّقَ امرأتَه ثَلاثًا قَبلَ أن يَدخُلَ بها، قال: ( لا تَحِلُّ له حَتَّى تَنكِحَ زَوجًا غَيرَه ).
وهذا سند منقطع؛ فالحسن، هو: الحسن بن صالح بن حي، لا يروي الحسن بن صالح عن عَبْد الرحمن بْن أَبي ليلى، وإنما عن حفيده عبد اللَّه بْن عِيسَى بْن عَبْد الرحمن بْن أَبي ليلى.
وقد رواه سعيد بن منصور في "السنن" (1096): عن هُشَيْم، قَالَ: أخبرنا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ رَجُلٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، رضي الله عنه مِثْلَ ذَلِكَ.
وهذا إسناد فيه رجل مبهم مجهول.
ومن طريق أبي جعفر محمد بن علي:
روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (10 / 120)، والبيهقي في "السنن الكبير" (15 / 244): عن حَاتِم بْن إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " إِذَا طَلَّقَ الْبِكْرَ وَاحِدَةً فَقَدْ بَتَّهَا، وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ".
وهو إسناد منقطع؛ أبو جعفر محمد بن علي لا يروي عن علي رضي الله عنه.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن علي العلويّ، الفاطميّ، المدني، ولد زين العابدين.
ولد: سنة ست وخمسين، في حياة عائشة وأبي هريرة. أرّخ ذلك: أحمد بن البرقي.
روى عن جدَّيْه: النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلي رضي الله عنه؛ مرسلا.
وعن جدَّيْه: الحسن، والحسين؛ مرسلا أيضا " انتهى. "سير أعلام النبلاء" (4/401).
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" (10/215): عن حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حِمْلَ بَعِيرٍ، قَالَ: ( لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ).
وهو منقطع أيضا بين أبي جعفر وبين علي رضي الله عنه، وعلي بن عمر بن حسين مجهول.
ومن طريق الحكم بن عتيبة:
روى عبد الرزاق في "المصنف" (6/375):عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صالِحٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الْحَكَمِ، أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالُوا: "إِذَا طَلَّقَ الْبِكْرَ ثَلَاثًا فَجَمَعَهَا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَإِنْ فَرَّقَهَا بَانَتْ بِالْأُولَى، وَلَمْ تَكُنِ الْأُخْرَيَيْنِ شَيْئًا".
والحكم بن عتيبة: لا يروي عن علي رضي الله عنه، إنما عامة مروياته عن التابعين، وبعض صغار الصحابة.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" الحكم بن عتيبة الكندي مولاهم: فقيه الكوفة مع حماد، عن بن أبي أوفى وأبي جحيفة، وعنه مسعر وشعبة. عابد، قانت، ثقة، صاحب سنة " انتهى "الكاشف" (1/344).
قال أبو حاتم: "الحكم بن عتيبة لقي من الصحابة زيد بن أرقم، ولا نعلم أنه سمع منه شيئا، رآه في جنازة". انتهى، من إكمال تهذيب الكمال، لمغلطاي (4/102).
وروى سعيد بن منصور في "السنن" (1/304) (1080): عن هُشَيْمٌ، قَالَ: أخبرنا مُطَرِّفٌ، عَنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَالَ: " هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، بَانَتْ بِالْأُولَى، وَلَمْ تَكُنِ الْأُخْرَيَانِ بِشَيْءٍ.
فَقِيلَ لَهُ: عَمَّنْ هَذَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟
فَقَالَ: عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ".
الخلاصة:
ما ورد عن عثمان وعلي رضي الله عنهما في مسألة الالزام بطلاق الثلاث، كل ما وقفنا عليه من آثار عنهما لا تخلو أسانيدها من ضعف أو مقال.
لكن أهل العلم بالخلاف، ينسبون ذلك القول بصيغة الجزم إلى علي رضي الله عنه، وأنه كان يقضي بذلك، وهو يشير إلى شهرة القضاء بذلك عنهم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" قال أحمد: وأنا أهابُها، لا أجيب فيها؛ لأنه يُروى عن عامة الناس أنها ثلاث: علي، وزيد، وابن عمر، وعامة التابعين " انتهى. "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان" (1 / 556).
وقال رحمه الله تعالى:
"وقد حكى ابن وَضّاح وابن مُغيث ذلك عن علي، وابن مسعود، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلا شكٍّ عن ابن مسعود، وعلي، وابن عباس: الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصحَّ عن ابن عباس أنه جعلها واحدة، ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك، فلذلك لم نَعُدّ ما حُكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعدّ ما وقفنا عليه في مواضعه، ونعزوه إليها، وبالله التوفيق." انتهى. "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان" (1 / 569).
ولمزيد الفائدة حول مسألة طلاق الثلاث تحسن مطالعة أجوبة الاسئلة رقم: (96194)، (36580)، (225024)، (256423).
والله أعلم.