التداوي بقراضة الفضة، ونحوها: يتوقف على شهادة أهل الطب الحديث، وعلم الأدوية: بأنه نافع، وأن التجربة دلت عليه؛ وإلا، فالأصل منع التداوي بها، حتى يثبت نفعه.
هل يجوز التداوي بشرب الماء الذي وضع فيه الفضة؟
السؤال: 499848
هناك من يلجأ إلى الفضة كعلاج شعبي، فيضعون قطعة نقدية منها في إناء مليء بالماء لمدة طويلة، ويشربون منه، ما حكم هذه الطريقة؟ وهل يجوز القيام بها لأسباب غير علاجية؟ وهل تدخل في نوع الآنية التي حرم الشرب منها والاستفادة منها؟
ملخص الجواب
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أولا:
السبب لا يثبت كونه سبباً، إلا بعلم من الشرع أو التجربة الظاهرة.
قال ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (1/137):
"لا يجوز أن يُعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم، فمن أثبت شيئاً سبباً بلا علم أو يخالف الشرع: كان مبطلاً، مثل من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "القول المفيد" (1/165):
"وإن اعتقد أنها سبب، ولكنه ليس مؤثراً بنفسه، فهو مشرك شركاً أصغر، لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسبب سببا، فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سببا. وطريق العلم بأن الشيء سبب:
إما عن طريق الشرع، وذلك كالعسل: (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) النحل آية/ 69، وكقراءة القرآن فيها شفاء للناس، قال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) الإسراء آية/82.
وإما عن طريق القدر، كما إذا جربنا هذا الشيء فوجدناه نافعا في هذا الألم أو المرض.
ولكن لا بد أن يكون أثره ظاهراً، مباشراً، كما لو اكتوى بالنار فبرئ بذلك مثلا، فهذا سبب ظاهر بين.
وإنما قلنا هذا، لئلا يقول قائل: أنا جربت هذا وانتفعت به، وهو لم يكن مباشراً؛ كالحلقة، فقد يلبسها إنسان وهو يعتقد أنها نافعة، فينتفع؛ لأن للانفعال النفسي للشيء أثرا بينا" انتهى.
ثانيا:
استعمال الفضة في التداوي بها، كان معروفا في الطب القديم؛ وغالباً ما تكون في دواء مركب من فضة وغيره، وقد تكون الفضة على شكل شرائح رقيقة، فتخلط في معجون مركب، ويؤكل، وبعضهم يغلي هذه الفضة.
قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (4/321):
"وهي-أي الفضة- من الأدوية المفرحة، النافعة من الهم والغم والحزن، وضعف القلب وخفقانه، وتدخل في المعاجين الكبار، وتجتذب بخاصيتها ما يتولد في القلب من الأخلاط الفاسدة، خصوصا إذا أضيفت إلى العسل المصفى، والزعفران.
ومزاجها إلى اليبوسة والبرودة، ويتولد عنها من الحرارة والرطوبة ما يتولد" انتهى.
وقال ابن البيطار في "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" (3/ 224):
"وإن سحلت الفضة، وخلطت بالأدوية المشروبة: نفعت من كثرة الرطوبات، ومن البلغم اللزج ومن العلل الكائنة من العفونة" انتهى.
ومعنى سُحلت: طُحِنَت ودُقَّت وسُحِقَت حتى أصبحت ناعمة. ينظر: "المعجم الوسيط" (1/420).َ
ثالثاُ:
لا يُحكم بثبوت نفع هذه القطعة، سواء كانت من فضة أو غيرها، إلا من خلال أهل التخصص في الطب الحديث والمعرفة بعلم الأدوية.
ولا يحق لطالب العلم الشرعي أن يجزم بنفعها أو نفي نفعها دون علمٍ طبي معتبر.
وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام مالك، فقد روى أشهب وابن نافع: "سُئل مالك عن رجلٍ به لَمَم (يعني به مسّ أو نحوه)، فقيل له: إن شئت أن نقتل صاحبك، قتلناه؟!
فقال له بعض من عندنا: لا تفعل، واصبر واتق الله. وقال له بعضهم: اقتله، فإنما هو مثل اللص يعرض لك يريد مالك، فاقتله.
فقال: إن أعظمهم جرماً الذي مثله باللص.
قيل له: فما رأيك؟ قال: لا علم لي بهذا، هذا من الطب.
يعني: يُرجع فيه إلى أهل الطب. ينظر: "النوادر والزيادات" (14/555)، "البيان والتحصيل" (16/385).
وقد بيّن هذا الأصل الإمام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (29/493)، وقال:
"كون المبيع معلوماً أو غير معلوم: لا يؤخذ عن الفقهاء بخصوصهم؛ بل يؤخذ عن أهل الخبرة بذلك الشيء؛ وإنما المأخوذ عنهم: ما انفردوا به من معرفة الأحكام بأدلتها...
فإذا قال أهل الخبرة: إنهم يعلمون ذلك، كان المرجع إليهم في ذلك دون من لم يشاركهم في ذلك، وإن كان أعلم بالدين منهم. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهم في تأبير النخل: "أنتم أعلم بدنياكم. فما كان من أمر دينكم؛ فإليّ" . ثم يترتب الحكم الشرعي على ما تعلمه أهل الخبرة" انتهى.
والحاصل:
أنه لا يجوز اعتماد ذلك، ولا العمل به؛ ما لم يخبر به الثقات العارفون من أهل الطب الحديث، وعلم الأدوية.
والشريعة تمنع اتخاذ سبب ما لا تظهر سببيته كوسيلة للتداوي أو التحصين ، حتى لو ادّعى بعضهم أنه نافع، ما لم يُعرف كونه سببًا حسيًّا مجرّبًا تثبته الدراسات الطبية، أو التحليلات المخبرية، فمثل هذه الأمور مما قد تتلاعب به الشياطين، وأحياناً يكون سبب الشفاء شيء آخر وافق وقت استعمال القطعة من الفضة، ولذا لا تثبت الدراسات الطبية شيئا إلا بعد دراسة مئات الحالات .
ولذا منعت الشريعة اتخاذ أي سبب غير ظاهر التأثير في المسبب، والعلاقة بالأثر، كاتخاذ خيط أو تميمة من معدن أو غيره لغرض التداوي؛ فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَهْطٌ، فَبَايَعَ تِسْعَةً وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، بَايَعْتَ تِسْعَةً وَتَرَكْتَ هَذَا؟ قَالَ: " إِنَّ عَلَيْهِ تَمِيمَةً " فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَقَطَعَهَا، فَبَايَعَهُ، وَقَالَ: "مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ" رواه أحمد (28/637)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (492).
عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ الرُّقَى، وَالتَّمَائِمَ، وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ، قَالَتْ: قُلْتُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا؟ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِينِي فَإِذَا رَقَانِي سَكَنَتْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّمَا ذَاكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَاهَا كَفَّ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا رواه أبو داود (3883)، وابن ماجه (3530)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (331) و(2972).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (138578)، ورقم: (305177).
والله أعلم.
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟