هل للأب التراجع عن الهدية التي وعد بها ابنه في حال نجاحه وتفوقه؟

السؤال: 500295

شرط علي والدي أن أدرس تخصص بعينه، وإن تخرجت الأول على الدفعة في هذا التخصص فسآخذ مبلغا من المال معلوم، لا ينطبق على بقية التخصصات، قبل عرضه كنت سأدخل تخصصا مختلفا، ورفض أن يكون العرض لأي تخصص آخر، وعند تخرجي الأول على الدفعة تحجج بأن العقد الذي بيننا وعد يمكن فسخه؛ بسبب أن لا منفعة له بها، وأنه يجب أن يعطي جميع اخوتي نفس المبلغ، للعدل بينهم.
فهل الذي بيننا وعدٌ أو عقد جعالة؟ وهل لي حق شرعي؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا:

إذا قال الأب لابنه: إن تخرجت من تخصص معين وكنت الأول على الدفعة فلك كذا من المال، فهذه هبة معلقة على شرط، يراد منها تحفيز الابن، وتشجيعه على دخول هذا التخصص والاجتهاد فيه.

وتعليق الهبة على شرط: جائز في قول بعض الحنفية والحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهم الله.

ومستند ذلك: ما روى البخاري (2296) ومسلم (2314) عَنْ جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا)، فَلَمْ يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ، فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا، فَحَثَى لِي حَثْيَةً، فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُ مِائَةٍ. وَقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا.

وروى أحمد (27276) وابن حبان (5114) عن أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَ لَهَا: " إِنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ، وَلَا أَرَى النَّجَاشِيَّ إِلَّا قَدْ مَاتَ، وَلَا أَرَى إِلَّا هَدِيَّتِي مَرْدُودَةً عَلَيَّ، فَإِنْ رُدَّتْ عَلَيَّ فَهِيَ لَكِ".

قَالَ: وَكَانَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُدَّتْ عَلَيْهِ هَدِيَّتُهُ، فَأَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةَ مِسْكٍ، وَأَعْطَى أُمَّ سَلَمَةَ بَقِيَّةَ الْمِسْكِ وَالْحُلَّةَ.

وحسَّن الحافظ إسناده في "الفتح" (5/ 222).

والجمهور يجعلون ذلك وعدا غير ملزم.

قال ابن قدامة رحمه الله في المغني (6/ 47): " ولا يصح تعليق الهبة بشرط؛ لأنها تمليك لمعين في الحياة، فلم يجز تعليقها على شرط، كالبيع.

فإن علقها على شرط، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: إن رجعت هديتنا إلى النجاشي، فهي لك: كان وعدا" انتهى.

وقال ابن القيم رحمه الله في مناقشة قول الجمهور بأن الهبة لا يصح تعليقها بالشرط:

"وهذا الحكم غير ثابت بالنص ولا بالإجماع، فما الدليل على بطلان تعليق الهبة بالشرط؟

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علق الهبة بالشرط، في حديث جابر، لما قال: لو قد جاء مال البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا ثم هكذا، ثلاث حثيات. وأنجز ذلك له الصديق رضي الله عنه لما جاء مال البحرين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: كان ذلك وعداً.

قلنا: نعم، والهبة المعلقة بالشرط وعد.

وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث إلى النجاشي بهدية من مسك وقال لأم سلمة: إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة فإن ردت علي فهي لك. وذكر الحديث. رواه أحمد.

فالصحيح: صحة تعليق الهبة بالشرط عملاً بهذين الحديثين " انتهى من "إغاثة اللهفان" (2/ 16 - 17).

وقال في أحكام أهل الذمة (2/ 752): " والأصل في الشروط الصحة، والمسلمون على شروطهم؛ إلا شرطا أحل حراما، أو حرم حلالا.

وكذلك الهبة: يجوز تعليقها بالشرط، كما ثبت ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لَكَ " انتهى.

وينظر: حاشية ابن عابدين (5/ 710)، الإنصاف للمرداوي (7/ 133).

وجاء في المعايير الشرعية، ص 268: "مستند مشروعية تعليق الهبة على إتمام الإجارة هو أن الهبة تقبل التعليق، وقد وهب النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي هبة معلقة على وجوده حيا حين وصول حاملها إليه" انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (11/ 152): "ومن هنا نعلم صحة الهبة المشروطة بشرط، خلافاً للمذهب، مثل أن يقول لشخص: إن تزوجت فقد وهبت لك هذا البيت تسكنه أنت وزوجتك، فهذا يجوز؛ لأن المسلمين على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرَّم حلالاً.

والصحيح أن جميع العقود يجوز فيها التعليق إلا إذا كان هذا التعليق يحق باطلاً أو يبطل حقاً" انتهى.

فالراجح جواز تعليق الهبة على شرط.

ثانيا:

الوعد مُلزم، ديانةً، في كل حال.

ومُلزِمٌ قضاءً، إذا دخل الموعود به في كُلْفة بسببه .

والقول بوجوب الوفاء بالوعد مطلقا، ذهب إليه عمر بن عبد العزيز وابن شُبرمة، وذكر البخاري في صحيحه أنه قول الحسن البصري، وقضى به ابن الأشوع، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. "صحيح البخاري" (3/ 180) كتاب الشهادات، بَابُ مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الوَعْدِ.

وهو قولٌ لبعض الحنفية، وبعض المالكية، ووجه في مذهب أحمد، اختاره تقي الدين ابن تيمية.

والمذهب عند الحنفية أن الوعد المعلق على شرط، يكون لازما.

وينظر: جواب السؤال رقم: (264311).

فلو قيل: إن هذا مجرد وعد، فالوعد هنا ملزم.

ثالثا:

اشترط المالكية والشافعية في الجعالة أن يكون في العمل منفعةٌ للجاعل.

جاء في "الموسوعة الفقهية" (15/ 216): "قال الشافعية، وهو الراجح عند المالكية: يشترط أن يكون للجاعلِ في العمل المُجاعَل عليه: غرض ومنفعة تعود عليه بتحققه، فلو قال: من أخبرني بكذا فله دينار: صح العقد بالشرائط السابقة.

ولو جاعل شخصٌ شخصًا آخر، على أن يصعد هذا الجبل، وينزل منه، مثلا، من غير أن يكون للجاعل فيه منفعة بإتيان حاجة منه: لا يصح العقد" انتهى.

وينظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 64).

ولم يشترط ذلك الحنابلة، فتجوز الجعالة على عمل لا منفعة فيه للجاعل.

قال البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع" (4/ 61): "(وإن قال) إنسان لآخر: ارمِ هذا السهم، و (إن أصبت به فلك درهم): صح جعالةً، لا نِضالا.

(أو قال) لآخر (ارم عشرة أسهم، فإن كان صوابك أكثر من خطئك فلك درهم): صح جعالة.

(أو قال) ارم عشرة أسهمٍ، و (لك بكل سهم أصبت به منها درهم، أو) لك (بكل سهم زائد على النصف من الصيبات درهم): صح جعالةً.

(أو قال) ارمِ عشرةَ أسهم، فـ (إن كان صوابك أكثر من خطئك، فلك بكل سهم أصبت به درهم: صح) ذلك، وكان جعالة، لأنه بذل مال على ما فيه غرض صحيح. ويلزمه الجُعل بالإصابة التي شرطها.

(لا نضالا)؛ لأن النضال إنما يكون بين اثنين أو جماعة، على أن يرموا جميعا، ويكون الجعل لبعضهم إذا كان سابقا" انتهى.

وعلى هذا فقول والدك لك: إن تخرجت الأول على الدفعة في التخصص الفلاني، لا يكون جعالة عند المالكية والشافعية، ويصح جعالة عند الحنابلة.

رابعا:

قد تبين بهذا أن هذا القول يصح أن يكون هبة معلقة، ووعدا، وجعالة عند بعض الفقهاء.

وفي الهبة المعلقة خلاف، والجمهور على أنها لا تصح، والوفاء بالوعد غير ملزم عند الجمهور، والجمهور أيضا: على أنه لا يصح ذلك جعالة.

فلو تمسك الأب بقول الجمهور في المسائل الثلاث فلا تثريب عليه.

ثم الهبة يتعلق بها مسألتان:

1-أنها لا تلزم إلا بالقبض، فللواهب الرجوع فيها قبل إقباضها.

قال البهوتي رحمه الله: " (وتلزم بالقبض بإذن واهب)؛ لما روى مالك عن عائشة رضي الله عنها: " أن أبا بكر رضي الله عنه: نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية، فلما مرض قال: يا بنية كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا ولو كنت حزتيه أو قبضتيه، كان لك، فإنما هو اليوم مال وارث، فاقتسموه على كتاب الله تعالى" انتهى من " الروض المربع على زاد المستقنع " ص 298.

2-أن للأب أن يرجع فيما وهب لولده حتى بعد قبض الهبة؛ لما روى أبو داود (3539) والترمذي (2132) والنسائي (3690) وابن ماجه (2377) عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً، فَيَرْجِعَ فِيهَا؛ إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ. وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ) والحديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود".

خامسا:

يلزم الأب أن يعدل بين أولاده في الهبة والعطية، فإن أعطاك الوالد هذا المال، لزمه أن يعطي مثله لإخوانك، سواء أعطاكه على سبيل الهبة أو الوعد أو الجعالة، لأنك لم تعمل له عملا تستحق به ذلك، ولو استأجرك على عمل وحاباك في الأجرة كانت الزيادة هبة يلزم فيها العدل.

فإذا كان والدك لا يمكنه إعطاء إخوانك: فلا حرج عليه في الرجوع في الهبة، بل لا حرج عليه في استردادها منك بعد أخذها.

قال ابن قدامة رحمه الله: " فإن خص بعضهم بعطيته، أو فاضل بينهم فيها أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين: إما رد ما فَضَّل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر. قال طاوس: لا يجوز ذلك ولا رغيف محترق. وبه قال ابن المبارك، وروي معناه عن مجاهد وعروة " انتهى من "المغني" (5/ 387).

وقد يقال هنا: لو كان إخوانك في الدراسة، ووعد من جاء الأول على دفعته أن يأخذ مثلك، كان هذا تحقيقا للعدل، عملا بقول من أـجاز التفضيل في الهبة لسبب.

والحاصل:

أن ما صدر من والدك هو من باب الوعد والهبة المعلقة والجعالة على قول، وجميعها فيه خلاف، ولا حرج على والدك أن يعمل فيها بقول الجمهور، فلا يلزمه شيء، لا سيما إذا كان لا يمكنه أن يعطي مثل ذلك لإخوانك.

والله أعلم

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android