الحمد لله.
أولا:
عبارة ابن رشد جاءت في سياق كلامه في الفصل الذي عنون له بـ (أموال الولاة المعتدين، والمرابين، والمرتشين).
“سأل أحدهم عن حكم أموال الظلمة، والولاة المعتدين، ومن كان في معناهم، كالمرابين والمرتشين، وأشباههم من المخلِّطين، في خاصة أنفسهم، وما يجوز من معاملتهم.
فالجواب: أن ذلك ينقسم على قسمين:
أحدهما: أن يكون الحرام قد ترتب في ذمة آخذيه، وفات رده بعينه إلى أربابه ومالكيه.
والثاني: أن يكون الحرام قائما بعينه، عند آخذيه، ولم يَفُتْ رده بعينه، إلى أربابه ومالكيه” انتهى
ثم شرع في تفصيل القسم الأول بقوله:
“فأما القسم الأول، وهو أن يكون الحرام قد ترتب في ذمة آخذيه، وفات ردُّه بعينه إلى ربه، ومالكيه، فلا يخلو من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون الغالب على ماله الحلال.
والثاني: أن يكون الغالب على ماله الحرام.
والثالث: أن يكون ماله حراما، إما بأن لا يكون له ماله حلال، وإما بأن يكون قد استهلك من الحرام أكثر مما كان له من الحلال، فيكون مستغرق الذمة بالحرام”.
وأطال الحديث في حالات القسم الأول.
ثم قال: “وأما القسم الثاني: وهو أن يكون الحرام قائما بعينه عند آخذه، لم يفت رده بعينه إلى ربه ومالكه؛ فسواء كان له مال سواه أو لم يكن: لا يحل لأحد أن يشتريه منه ان كان عَرَضا، ولا يبايعه فيه ان كان عَينا، ولا يأكله أن كان طعاما، ولا يُقبل شيء من ذلك هبةً، ولا يأخذه منه في حق له عليه.
ومن فعل شيئاً من ذلك، وهو عالم: كان سبيلُه سبيلَ الغاصب، في جميع أحواله”. “فتاوى ابن رشد” (1/643).
ومقصوده في عبارته:
أنّ من غصب مالا، أو سرقه، وكان هذا المال المأخوذ بغير حق باقيا -بعينه- عند آخذه، وعنده مال حلال آخر: فلا يجوز لأحد أن يشتري منه المال الحرام، إن كان عرضا؛ كسيارة مثلا، ولا يقبله ثمنا في بيع إن كان عينا، أي ذهبا أو فضة، ولا يأكله إن كان هذا المال طعاما مغصوبا، مثلا، ولا يقبله هدية أو هبة.
فالمال المحرم لعينه، هذا سبيله، لا يجوز لأحد أن يعامله فيه، ولو كان لدى الغاصب أو السارق مالٌ حلالٌ آخر؛ لأن التحريم في عين ذلك المال.
بخلاف المال الحرام الذي زالت عينه، وبقي الحق في ذمة آخذه، أو اختلط بغيره من الحلال، ولم يمكن تمييزه منه، كما لو غصب دابة وماتت، أو طعاما وأكله؛ فإنه يبقى في ذمته ثمنه أو قيمته، فيجوز له على قول-كما قرره في القسم الأول- أن يشتري منه، أو يبايعه، أو يقبل منه هدية، إذا كان لديه مال زائد عنه، يغطي قيمة الحرام المستحق لأصحابه.
ثانيا:
ما ذكره ابن رشد من التفريق بين المال الحرام المعين، وبين ما في الذمة المختلط بغيره، هو منصوص للسلف قبله.
روى عبد الرزاق في مصنفه (14675) عَنْ ذَرِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: “جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارًا يَأْكُلُ الرِّبَا، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْعُونِي، فَقَالَ: مَهْنَؤُهُ لَكَ وَإِثْمُهُ عَلَيْهِ، قَالَ سُفْيَانُ: فَإِنْ عَرَفْتَهُ بِعَيْنِهِ فَلَا تُصِبْهُ”.
فكلام ابن مسعود في المختلط، وكلام سفيان في المحرم الباقي بعينه.
والمختلط: منهم من قيده بألا يكون أكثر ماله حراما.
قال الإمام أحمد: أما أنا، فإذا كان أكثر مال الرجل حراماً، فلا يعجبني أن آكل من ماله.
وقال إسحاق: كما قال [أي أحمد]، ومعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه ليس بمخالف لما قلنا” انتهى من “مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه” (6/ 2621).
وروى عبد الرزراق (14677) عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: ” إِذَا كَانَ لَكَ صَدِيقٌ عَامِلٌ، أَوْ جَارٌ عَامِلٌ، أَوْ ذُو قَرَابَةٍ عَامِلٌ، فَأَهْدَى لَكَ هَدِيَّةَ أَوْ دَعَاكَ إِلَى طَعَامٍ، فَاقْبَلْهُ، فَإِنَّ مَهْنَأَهُ لَكَ وَإِثْمُهُ عَلَيْهِ”.
قال ابن رجب رحمه الله: ” ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله الحرام؛ فقال أحمد: ينبغي أن يتجنبه، إلا أن يكون شيئا يسيرا، أو شيئا لا يعرف.
واختلف أصحابنا: هل هو مكروه أو محرم؟ على وجهين.
وإن كان أكثر ماله الحلال، جازت معاملته والأكل من ماله.
وقد روى الحارث عن علي أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب، مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرام كله.
وإن اشتبه الأمر: فهو شبهة، والورع تركه.
قال سفيان: لا يعجبني ذلك، وتركه أعجب إلي.
وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يُعرف أنه حرام بعينه.
فإن لم يعلم في ماله حرام بعينه، ولكن علم أن فيه شبهة؛ فلا بأس بالأكل منه، نص عليه أحمد في رواية حنبل.
وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان وغيرهما من الرخصة، وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضي من الربا والقمار، نقله عنه ابن منصور…
ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يُعلم في ماله حرام، ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه، كما تقدم عن مكحول والزهري، وروي مثله عن الفضيل بن عياض.
وروي في ذلك آثار عن السلف:
فصح عن ابن مسعود أنه “سئل عمن له جار يأكل الربا علانية، ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه، يدعوه إلى طعامه؟
قال: أجيبوه؛ فإنما المهنأ لكم، والوزر عليه.
وفي رواية أنه قال: لا أعلم له شيئا إلا خبيثا أو حراما؟
فقال: أجيبوه.
وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود، ولكنه عارضه بما روي عنه أنه قال: “الإثم حَوازّ القلوب”.
وروي عن سلمان مثلُ قولِ ابن مسعود الأول، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، ومُوَرِّقٍ العِجْلي، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين، وغيرهم، والآثار بذلك موجودة في كتاب ” الأدب ” لحميد بن زنجويه، وبعضها في كتاب ” الجامع ” للخلال وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم.
ومتى علم أن عين الشيء حرام، أخذ بوجه محرم: فإنه يحرم تناوله.
وقد حكى الإجماع على ذلك ابنُ عبد البر وغيره” انتهى من “جامع العلوم والحكم” (1/ 200).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الأموال المغصوبة، والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض، إن عرفه المسلم: اجتنبه، فمن علمتُ أنه سرق مالاً، أو خانه في أمانته، أو غصبه فأخذه من المغصوب قهراً بغير حق: لم يجز لي أن آخذه منه، لا بطريق الهبة، ولا بطريق المعاوضة، ولا وفاءً عن أُجْرة، ولا ثمن مبيع، و لا وفاء عن قرض؛ فإن هذا عين مال ذلك المظلوم ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (29/ 323).
وقد ذكرنا الخلاف في معاملة صاحب المال المختلط، في جواب السؤال رقم: (171922)، ورجحنا جواز معاملته مع الكراهة. وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (179446).
وأما المال المحرم إذا كان باقيا، فذهب بعض أهل العلم إلى التفريق بين ما كان محرما لعينه كالمسروق والمغصوب، وما كان محرما لكسبه كالمأخوذ ربا أو رشوة، فيحرم معاملته في الأول، دون الثاني، وهو مذهب المالكية وجماعة من أهل العلم، خلاف للجمهور، كما هو مبين في جواب السؤال رقم: (289442).
والله أعلم.
تعليق