الحمد لله.
أولا:
هذا الخبر رواه الإمام إسحاق بن راهويه "المسند" (2/322)، قال: أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حدّثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ الزُّبَيْرَ وَرَجُلًا آخَرَ فِي لَيْلَةٍ قَرَّةٍ: فَنَظَرُوا ثُمَّ جَاءَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مِرْطٍ لِأُمِّ سَلَمَةَ، فَأَدْخَلَهُمَا فِي الْمِرْطِ، وَلَزِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأُمِّ سَلَمَةَ".
وهذا إسناد رواته ثقات؛ إلا أنه مرسل، فعروة بن الزبير لم يدرك عصر النبوة.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى:
" هذا مرسل صحيح السند، ذكر [؟] فيه نظر " انتهى. "المطالب العالية" (17/399).
وعلق عليه محقق الكتاب بقوله:
" كذا في المخطوط ولعل صحة العبارة ( ذكر أم سلمة فيه نظر) " انتهى.
وقد روي متصلا.
رواه البزار في "المسند" (3 / 183)، والحاكم في "المستدرك" (3 / 364)، وغيرهما: عن إِسْحَاق بْن إِدْرِيسَ، قَالَ: حدّثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، قَالَ: حدّثنا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ أَوْ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَذَهَبْتُ ثُمَّ جِئْتُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ فِي لِحَافٍ، فَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ ثَوْبٍ أَوْ طَرَفَ الثَّوْبِ".
قال البزار رحمه الله تعالى عقب الحديث:
" وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ إِلَّا الزُّبَيْرُ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ إِسْنَادًا غَيْرَ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ إِسْحَاقَ بْنَ إِدْرِيسَ، عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ " انتهى.
وقال الحاكم رحمه الله تعالى:
" هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه " انتهى.
لكن في هذا الإسناد إسحاق بن إدريس، وهو متروك الحديث.
قال الهيثمي رحمه الله تعالى:
" رواه البزار، وفيه إسحاق بن إدريس، وهو متروك " انتهى. "مجمع الزوائد" (9 / 152).
وهو يروي عن أبي معاوية، وقد نص أبو زرعة أنه يروي عنه أحاديث منكرة.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:
" سمعت أبي يقول: تركه على ابن المديني.
سألت أبي عنه فقال: ضعيف الحديث.
سئل أبو زرعة عنه فقال: واهي الحديث، ضعيف الحديث، روى عن سويد بن إبراهيم، وأبي معاوية أحاديث منكرة " انتهى. "الجرح والتعديل" (2/213).
فالصواب في الخبر الارسال.
ثانيا:
وهذا الخبر المرسل يسوقه بعض أهل الزيغ والضلال في هذا العصر ليثير به الشبهات، وهذه الشبهة حاصلها، كيف يسمح النبي صلى الله عليه وسلم بوجود رجلين معه في الثوب وأم سلمة حاضرة؟
وهذه شبهة منتفية بأمرين:
الأول: أن هذا الخبر المرسل قد جاءت رواية أصح منه، قد يفهم منها أن الرجل الثاني هو حذيفة رضي الله عنه، ولم يرد فيها ذكر لأم سلمة رضي الله عنها، وغاية ما ورد أن الثوب كان لإحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام مسلم (1788) عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: " لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ. فَقَالَ: قُمْ يَا حُذَيْفَةُ، فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ. فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، قَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ. وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ: قُمْ يَا نَوْمَانُ.
قال محققو "مستدرك الحاكم – طبعة الرسالة" (6/549):
" وقد روى هذا الخبر حماد بن سلمة عند إسحاق بن راهويه في "مسنده" (1977) عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلا...
وقد ظهر بهذه الرواية المرسلة أن هذا كان ليلة الأحزاب، وإذا ثبت ذلك فقد جاء من طرق عن حذيفة بن اليمان: " أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بعثه وحده ليلة الأحزاب ليأتيه بخبرهم، فجاءهم حذيفة وعرف خبرهم، ثم عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي في مرطٍ لبعض نسائه مرحَّل، قال: فلما رآني أدخلني إلى رحله، وطرح عليَّ طرف المرط، ثم ركع وسجد وإنه لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر".
هكذا جاء عند أحمد (38/358)، وفي رواية مسلم (1788) قال: " فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائمًا حتَّى أصبحتُ".
فكأنّ حذيفة هو الرجل الآخر الذي ورد ذكره في مرسل عروة بن الزبير.
لكن ليس فيه هنا أنّ أحدا من نسائه كانت في المرط، إنما كان المرط لبعض نسائه، وفرق بين الأمرين، وحديث حذيفة أثبت وأولى بالقبول من مرسل عروة، والله أعلم " انتهى.
الأمر الثاني: على فرض صحة خبر عروة المرسل، فالحادثة وقعت ليلة الأحزاب، والأخبار الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الرباط عند الخندق، ولم يرجع إلى بيته إلا بعد الغزوة.
روى البخاري (4122)، ومسلم (1769) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: " فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخَنْدَقِ وَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام وَهْوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ الْغُبَارِ، فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ، وَاللهِ مَا وَضَعْتُهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَ. فَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ … " .
فالظاهر المتبادر أن هذه الحادثة وقعت وقت رباطه صلى الله عليه وسلم مقابل العدو عند الخندق، فيمكن أن تكون أم سلمة، رضي الله عنها، قدمت لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رباطه، وكانت ليلة شديدة البرد كما في خبر حذيفة رضي الله عنه السابق: " لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ … "، فيحتمل أنها جلست بجانب النبي صلى الله عليه وسلم ليتدثرا بثوب واحد اتقاء هذا البرد الشديد، ثم لما قدم الزبير والرجل الآخر جلسا بجانب النبي صلى الله عليه وسلم فمد إليهما طرف الثوب ليتدثرا أيضا.
فمثل هذه الجلسة - في ظلام الليل وشدة البرد والاحتراس من العدو وفصل النبي صلى الله عليه وسلم بين زوجته وبين الرجلين وذلك بجلوسه بينهم – هي جلسة لا تثير أي ريبة ولو قعت من أضعف الناس إيمانا، فكيف وهم أطهر الناس قلوبا وبينهم خير الخلق صلى الله عليه وسلم؟!
وهذا كله على فرض ثبوت ذكر أم سلمة في القصة، وأنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإلا، فقد مر أن الثابت من الروايات لا يتعرض لأم سلمة، ولا غيرها من أمهات المؤمنين بذكر في الحادثة.
والخلاصة:
هذا الخبر مرسل، وعلى القول بصحته وبصحة ذكر أم سلمة فيه، فالظاهر أن هذا لم يقع في حالة نوم في بيته صلى الله عليه وسلم، بل في حالة جلوس أثناء الرباط في غزوة الخندق، وقد اجتمع في تلك الليلة الاحتراس من العدو مع شدة البرد، فكان جلوس أم سلمة بجانب النبي صلى الله عليه وسلم للحاجة الماسة.
والله أعلم.
تعليق