الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

نصائح وتوجيهات لمن ابتلي بفقد حبيب أو قريب

508626

تاريخ النشر : 04-06-2024

المشاهدات : 2520

السؤال

ابتليت بالفقد والخسارة تباعا، وينتابني شعور بعدم الرغبة في شيء من الحياة، وأخشى على نفسي من الأسوأ

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

الإنسان في حياته لا يخلو من فقد حبيب، أو عزيز، فقد يفقد الإنسان أحد والديه، أو بعض أبنائه، وقد يفقد زوجة، أو أخًا، تتنوع صور الفقد غير أنها تشترك في أمر واحد  الحزن الذي يخلفه الفقد في حياة الإنسان.

والْفَقْد: هو عدم الشيء بعد وجوده، وهو أخص من العدم، لأن العدم يقال فيه  فيما لم يوجد بعد. انظر: "الكليات" (1/694).

ثانيًا: (الحزن أمر فطري):

الحزن هو الفطرة التي خُلق الإنسان عليها، كي تساعده على التعبير عن الألم الناتج عن حالة انفصال أو موت، سواء أكانت الصدمة شديدة أم بسيطة، والحزن ليس حالة واحدة، ولكنه عملية متغيرة ودائمة، فهو المزيج المعقد من الانفعالات الوجدانية والعقلية والبدنية التي تؤثر في مختلف الأفراد بشتى الطرق، ولأجل ذلك لم يرد في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما ينهى عن الحزن الطبيعي الذي يصيب الإنسان حال فقده أحدًا من أحبابه، بل ثبت في كتاب الله تعالى حزنُ أنبيائه ورسله على فقد عزيز لديهم.  

ومن أمثلة تلك الظاهرة: ما حكاه الله عن يعقوب الوالد، حين فقد ولده يوسف، وحكى الله شكايته، وعدم نسيانه ليوسف مع تطاول الأزمان، وتصرم الأعوام.

ثالثًا:

لما كانت الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في أصحابه وآل بيته = كان من الحسن أن نتعرف على أحوالهم في الفقد، وكيف كان يقع الفقد في أنفسهم؟ وكيف كانوا يعالجونه؟

أولًا: أحوالهم في الفقد:

لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم الفقد صغيرًا، فقد أحس بألم الفقد في أبيه وهو صغير، ثم في أمه، ثم جده، وعاشه كبيرًا في فقد عمه، ثم في فقد أقرب الناس إليه، وأحظاهم عنده: زوجته خديجة.

وتوالى الفقد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى فقد جميع أولاده في حياته غير فاطمة - رضي الله عنها-، وفقد كثيرًا من أصحابه، وأهل بيته.

1- فقد الرسول صلى الله عليه وسلم لأولاده: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: (كَسَفَتِ الشَّمْسُ علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ، فَقالَ النَّاسُ: "كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا، وادْعُوا اللَّهَ" أخرجه البخاري (1043).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " دَخَلْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم علَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وكانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ، فأخَذَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عليه بَعْدَ ذلكَ وإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ، فَقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: وأَنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَقالَ: يا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بأُخْرَى، فَقالَ صلى الله عليه وسلم: إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315).

قال ابن عبد البر: "الصياح والنياح لا يجوز شيء منه بعد الموت.

وأما دمع العين وحزن القلب: فالسنة ثابتة بإباحته، وعليه جماعة العلماء.

بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبراهيم ابنه، وقال: إنها رحمة. من حديث جابر وحديث أنس. وروى أبو إسحاق السبيعي عن عامر بن سعد البجلي عن أبي مسعود الأنصاري، وثابت بن زيد، وقرظة بن كعب، قالوا رُخِّص لنا في البكاء على الميت من غير نوح." انتهى، من "الاستذكار" (3/67).

لقد فُجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بوفاة جميع أبنائه، عدا الزهراء فاطمة، رضي الله عنها، فإنها هي التي فُجعت فيه بعد موته صلى الله عليه وسلم، وها هو إبراهيم عليه السلام يجود بنفسه، فتدمع عينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم لفقده، كما هو حال نفسه الرحيمة الشريفة دومًا، تتحلى بالسكينة والرضا والصبر، بكاءٌ بلا سخط، ورحمةٌ وشفقةٌ من غير عويل ولا بطر، فأي سلوى وعزاء لمن فقد حبيبًا من أحبابه أو ابنًا من أبنائه أو عزيزًا عليه= أعظم من التسلي بتأمل مصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يفقد رياحين الفؤاد، وينابيع الروح، ولم يكن منه مع ذلك كله إلا الصبر والرضا والاسترجاع!

يرى خليقة الله كأنها أمانة، وضعها الله تعالى بين يدي عبده، ثم استردها، وهذه سنة دنيانا الفانية، فمن دار الممر إلى دار المقر، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

2- موت زوجته وقرة عينه: كانت خديجة رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحبها عليه الصلاة والسلام، وعانى عليه الصلاة والسلام فقدها بعد قرابة (25) عاما من قربها منه، وارتباطه بها رضوان الله عليها. فعن عروة بن الزبير، قال:  "تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى المَدِينَةِ بثَلاثِ سِنِينَ، فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أوْ قَرِيبًا مِن ذلكَ، ونَكَحَ عائِشَةَ وهي بنْتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ بَنَى بها وهي بنْتُ تِسْعِ سِنِينَ" أخرجه البخاري (3896).

ورغم وفاة أم المؤمنين خديجة، رضي الله  عنها، ظل النبي صلى الله عليه وسلم وفيًا لذكراها.

فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما غِرْتُ علَى أحَدٍ مِن نِسَاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ما غِرْتُ علَى خَدِيجَةَ، وما رَأَيْتُهَا، ولَكِنْ كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، ورُبَّما ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّما قُلتُ له: كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إلَّا خَدِيجَةُ، فيَقولُ: إنَّهَا كَانَتْ، وكَانَتْ، وكانَ لي منها ولَدٌ أخرجه البخاري (3818)، ومسلم (2435).

فهذه الأحاديث دالة على محبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وقربها منه، ومع ذلك فقد تجاوز ألم هذا الفقد، وظل وفيًّا مع الصبر، ووفاؤه عليه السلام نبراس لأحبابه، أن يبقى الوفاء حتى مع الفقد، وأن تظل رابطة المحبة والصحبة قائمة.

3- حزنه على عمه: بعد فقد النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة، فقد أيضًا عمه أبا طالب، ومع كون أبي طالب هو المدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا أنه في النهاية لـم يمت على دين الإسلام، ورغم ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا عليه.

قال ابن سيد الناس، رحمه الله: " فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَذَى ‌مَا ‌لَمْ ‌تَكُنْ ‌تَطْمَعُ ‌فِيهِ ‌فِي ‌حَيَاةِ ‌أَبِي ‌طَالِبٍ، حَتَّى اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ فَنَثَرَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا. فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَهُ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ فَجَعَلَتْ تَغْسِلُ عَنْهُ التُّرَابَ وَهِيَ تَبْكِي، ورَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: لا تبك يَا بُنَيَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ، وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ: مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ". انتهى، من " عيون الأثر (1/ 151).

ثانيًا: مراحل الفقد:

1- الإنكار: نستطيع رفض الألم أو تقبله. نستطيع أن نكون متفاعلين مع ما يحدث حولنا أو مقدرين للأمور سلفًا .. لكن ما لا نستطيع القيام به هو أن نتظاهر أن ذلك لن يحدث لنا يومًا ما إذا أحببنا، إننا، وبكل تأكيد: لا نستطيع تجنب الحزن.

علينا أن نحزن قبل أن نتعافى من أثر الصدمات التي نتعرض لها ونستعيد أنفسنا. وسنتغير كلما زادت خبراتنا. فقد نصبح أكثر نضجًا وقوة وحكمة ورحمة. وسندرك أننا تغلبنا على حزننا، ومضينا قدمًا نعيد الأمل إلى الحياة وإلى أنفسنا.

إن الحزن مزيج مركب من الانفعالات البدنية والوجدانية والعقلية. فهو ليس حالة عقلية فردية، ولكنه عملية طويلة تتغير بمرور الزمن.

2- الغضب: عندما ينتابنا الحزن، تتملكنا فجأة انفعالات الغضب العارمة لموت شخص أحببناه، وهجره لنا، وتغيير حياتنا إلى الأبد، قد ينفس المرء عن هذا الغضب بالثورة ضد الجميع، كالأطباء المتخصصين مثلًا لمجرد كونهم طرفًا فيما حدث؛ فالمرء حساس للغاية في حزنه، من الضروري أن نتذكر أن الغضب عاطفة طبيعية وصحية، وأن القدرة على التعبير عنه تحمينا من الإصابة بالاكتئاب، فيقول عالم النفس البريطاني جون بولبي: الغضب ضروري للتعبير عن الحزن، والتغلب عليه؛ فبعد أن يبذل الإنسان قصارى جهده لاستعادة الشخص المفقود، يضطر أخيرًا إلى الاعتراف بالهزيمة، والتكيف مع العالم بدونه.

3- التفاوض: إذا كنا مدركين لما نشعر تجاهه بالذنب، فربما نكون قادرين على إصلاح الأمر، ولو بطريقة غير مباشرة، كالتعويض عنه أو التصالح مع أنفسنا. قد ينشأ الذنب من الإحساس بالمسئولية المفرطة التي لا تتناسب مع الحقائق أو الصورة الشاملة للموضوع؛ فتختلط مشاعر الحسرة والذنب التي يجدر التفريق بينها.

فثمة فارق بين الحسرة على افتقار شيء، والإحساس بالذنب تجاه شيء، فالإحساس بالذنب أقوى.

4- الاكتئاب: إن الحزن هو أكثر العواطف شيوعًا، وقد يكون أكثرها قبولًا. فالبكاء والحزن انفعالات طبيعية تنحسر شدتها بمرور الزمن. قد يشبه الحزن المرض، ولكنه ليس كذلك. فهو عملية طبيعية ضرورية لاستعادة المرء توازنه. قد يستغرق وقتًا، ويستلزم جرأة وشجاعة، ولكن أغلبية الأفراد ينجحون في الشفاء.

5- التقبل والمعالجة: قد تكون العيادات النفسية مفيدة في بعض الحالات، إن كان الفرد يعيش وحيدًا أو يشعر بالحرج من فرض نفسه على أصدقائه أكثر من ذلك، فيفضل أن يلجأ إلى شخص محايد يستمع إليه. وقد أثبتت التجربة أهمية الاستشارة النفسية للأسرة قبل موت أحد أفرادها المصاب بمرض قاتل. ويتفق الخبراء جميعهم على ضرورة اللجوء إلى العلاج النفسي إذا أصيب المكلوم بحالة من الحزن؛ إذ قد يرغب في التحدث إلى طبيب نفسي متخصص في علاج حالات الحزن الناتجة عن وفاة أحد المقربين.

كما أن ثمة مؤسسات تهتم بمساندة الأفراد الذين يفقدون أحد أطفالهم أو أصدقائهم أو المقربين منهم، أو عقب وقوع الكوارث القومية.

أثبتت شبكة الإنترنت أيضًا أنها وسيلة اتصال واسعة الانتشار؛ إذ يجد المراهقون على وجه الخصوص أنه من السهل التعبير عن عواطفهم مع الغرباء في غرف الدردشة الافتراضية، بدلًا من الحديث مع شخص يعرفونه.

انظر: "الفقد خلاصة الدروس" للشيخ أحمد سالم: (ص15-17).

وينظر بتوسع: "العيش رغم الفقد والألم"، جوليا توجندات.

ثالثًا: التعايش مع الفقد والابتلاء:

1- إن الطريقة الشائعة لمعالجة الحزن على نحو إيجابي، هي تحويله إلى وسيلة لمساعدة الآخرين؛ فمثلًا تتكون جماعات المساعدة الذاتية في الأصل من أفراد مروا بتجارب حزن مشتركة؛ فيستمد المكلوم القوة من مساعدة الآخرين أثناء مرورهم بإحدى مراحل الحزن، في حين يقوم غيره من المكلومين بجمع الأموال من أجل البحث الطبي وتجهيزات المستشفيات وعلاج الأمراض النادرة.

2- عدم اتخاذ قرارات متسرعة؛ فليس من الحكمة أن يتخذ الإنسان القرارات المصيرية، وهو في أقصى حالات الضعف البدني والعقلي؛ إذ تميل قراراته في هذه الفترة إلى التسرع والاندفاع نتيجة للخوف. فليست  أوقات الحزن، والمصائب، هي الوقت المناسب لترك البلد أو الانتقال إلى بيت جديد أو بيع الممتلكات أو البدء في علاقات جديدة.

3 - اكتشاف النعم في الفقدان أو الصدمة -بعد مرور الوقت الكافي- طريقة مهمة لاجتلاب معنى ومغزى إلى الأحداث، حتى نستطيع وضعها في نصابها ونتقدم في حياتنا.

ومع أن تحديد مواطن هذه النعم، يمكن أن يستغرق وقتًا، فإن فعل ذلك يمكن أن يفتح الأبواب على سبل وفرص بإمكانها أن تصبح موارد لكل من المعنى والرضا فيما بعد.

فمساعدة آخرين يعانون ظروفًا مشابهة، وخلق وعي عن الأمراض أو المشكلات المجتمعية أو مخاطر أخرى، والكتابة الإبداعية عن الأحداث ... ونحو ذلك، من شأنه أن يجعل من الأحداث الكبيرة، والمأساوية أيضا: مناسبة لتقرير "المعنى" والوصول إلى "الهدف"، و"إدراك الغاية"!!

وفي حين أن تعيين الطرق المحتملة لاستخلاص النعم من المأساة يمكن أن يكون له أثر إيجابي في تعافينا، إلا أن تطبيق العالم الواقعي لهذه المنافع، يظل هو ما يؤدي إلى تعافينا النفسي والعاطفي بدرجة أكبر.

ومن أجل ذلك، نحن بحاجة إلى أن نجد سبلًا لنضع المنافع التي أدركناها، موضع التنفيذ.

4- الحق أحق بالاتباع، ولو في شدة الحزن: عن ابن شهاب، قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، أن أم العلاء، امرأة من الأنصار بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: (أنَّهُ اقْتُسِمَ المُهَاجِرُونَ قُرْعَةً، فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بنُ مَظْعُونٍ، فأنْزَلْنَاهُ في أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وجَعَهُ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وغُسِّلَ وكُفِّنَ في أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتي عَلَيْكَ: لقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ!! فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: وما يُدْرِيكِ أنَّ اللَّهَ قدْ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلتُ: بأَبِي أَنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ، فمَن يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقالَ: أَمَّا هو فقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، واللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو له الخَيْرَ، واللَّهِ ما أَدْرِي، وأَنَا رَسولُ اللَّهِ، ما يُفْعَلُ بي!! قالَتْ: فَوَاللَّهِ لا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا  أخرجه البخاري (1243)

فلا يسوغ لأحد تحت ألم الفقد أن يخرج عن قانون الشرع، فمع هذا الألم، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ردهم إلى الحق. ولم يمنعه ألم الفقد الذي يعيشه عليه الصلاة والسلام من بيان الحق، وبيان الواجب في تلك القضية.

7- يأتي بعد ذلك الدور المجتمعي الضروري، لتعافي المصاب من مصابه، ودعمه لئلا يسقط تحت وطأة المصاب، وشدة الألم. فعن عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:  مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ ‌مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ ‌تَدَاعَى ‌لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى رواه البخاري (6011) ومسلم (2586).

فالذي ينبغي على أهل الإسلام أن يخففوا عن أصحاب الفقد، وألا يجمعوا عليهم الفقد، مع الهجر وعدم الاكتراث، فكلما كان الترابط بينهم موجودًا، فهو الخير لهم جميعًا.

انظر: "الفقد خلاصة الدروس" (ص 25- 28).

رابعًا: وصايا:

- المصيبة ابتلاء وتطهير لأهل الإيمان. قال الشيخ عبدالقادر الجيلاني: "يا بني، إن المصيبة ما جاءت لتهلكك؛ وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك، يا بني، القدَر سبُع، والسبُع لا يأكل الميتة".

- الصبر نصف الإيمان. قال ابن القيم: "والايمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر. قال غير واحد من السلف: الصبر نصف الايمان. وقال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: الايمان نصفان نصف صبر ونصف شكر. ولهذا جمع الله سبحانه بين الصبر والشكر في قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ إبراهيم/ 5". انتهى، من "عدة الصابرين" (ص205).

- أقدار الله مبطنة بالرحمات: أرأيت لو أنك موعود بمكان فيه كل الذي تشتهيه نفسك وتحبه من الخيرات، أيضرك لو كان ـ فقط ـ لون الباب الذي يوصلك إلى هذا المكان لا يعجبك؟! كذلك أقدار الله التي تكرهها نفوسنا، ليست سوى بوابات توصلنا إلى الخيرات التي نأملها ونتمناها..

لكننا أحيانًا ننظر إلى الباب ... ونظل نبتئس من ظاهره، وننسى أننا سنمر به فقط، وأن جمال باطنه فوق ما نتصور.

انظر: "تسلية أهل المصائب" (13).

- الصبر سببٌ لهداية القلوب: "إن الصبر سبب لهداية القلوب وزوال قسوتها، وحدوث رقتها، وانكسارها، فكم من غافل رجع إلى ربه عندما أصيب بمرض؟ كم من لاهٍ أقبل على مولاه عندما أصيب بفقد عزيز، ويقول سبحانه: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ التغابن/ 11.

قال ابن مسعود وغيره من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم. ومعنى الآية: أن من أصابته مصيبة، فعلم أنها من قدر الله، فصبر، واحتسب، واستسلم لقضاء الله= هدى الله قلبه، وعوّضه عما فاته من الدنيا هدى وطمأنينة في قلبه، ويقينًا صادقًا.

وقد يخلف الله عليه خيرا مما كان أخذ منه.

انظر: "الصبر أقسامه وثمراته" (28).

قال ابن تيمية: "والصبر واجب باتفاق العلماء.

وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، والرضا قد قيل: إنه واجب، وقيل: هو مستحب، وهو الصحيح.

وأعلى من ذلك: أن يشكر الله على المصيبة، لما يرى من إنعام الله عليه بها، جعلها سببًا لتكفير خطاياه، ورفع درجته، وإنابته إلى الله، وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه، ورجائه دون المخلوقين". انتهى، من "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (1/73).

خامسًا: لوازم الصبر أمران:

الأول: التحلي بالصبر عند الصدمة الأولى: وهذا الأمر مستنبط من حديث المرأة التي أمرها الرسول - التحلي بالصبر، فلم تأتمر، ثم لما علمت أن الآمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت إليه معلنة صبرها، فعندئذٍ قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّما الصَّبرُ عندَ الصَّدمةِ الأولى).

رواه البخاري (1283) ومسلم (926).

فقد أوضح لها الرسول أن الصبر الذي يؤجر عليه صاحبه، ويحمد فاعله هو الصبر والثبات عند أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع، وإلا؛ فبعد أيام لا بد من السلو، وشيء من النسيان، والغفلة، ليتم عيش الناس.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: من لم يصبر عليها (المصائب) صبر الكرام سلا سلو البهائم.

وقد ترجم الإمام البخاري، رحمه الله على هذا الحديث في "صحيحه":

" ‌‌بَابُ: الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى.

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: نِعْمَ الْعِدْلَانِ، وَنِعْمَ الْعِلَاوَةُ:

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ". انتهى، من صحيح البخاري (2/ 83).

الثاني: الاسترجاع عند حلول المصيبة: الاسترجاع هو قول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ البقرة/ 156، وهو دليل على صبر صاحبه عند حلول المصيبة، وقد شرع الله الاسترجاع عند المصيبة بقوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ البقرة/ 155-156، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:  ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما أمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 156]، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها، إلَّا أخْلَفَ اللَّهُ له خَيْرًا مِنْها أخرجه مسلم (918)، لا شك أن الاسترجاع من كمال الصبر على المصائب، وهو الدليل على صدق صاحبه في الصبر ورضاه بقدر الله وقضائه، وفي هذا ما ينبغي على الإنسان قوله إذا فقد حبيبًا أو عزيزًا.

انظر: "أعمال القلوب عند ابن تيمية" (504-506).

ختامًا: لا بأس بإظهار الحزن على فقد الأحبة، ولا بأس بالبكاء دون صراخ وشق ثياب ونواح, وقد سالت الدموع من عينه صلوات ربي وسلامه عليه على موت ابنه، لكنه فقال: تَدْمَعُ العَيْنُ وَيَحْزَنُ القَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا ما يَرْضَى رَبَّنَا، وَاللَّهِ يا إِبْرَاهِيمُ إنَّا بكَ لَمَحْزُونُونَ أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315).

فلا يعيش المصاب في الحزن دائما، ولا ينظر إلى حاله بنظرة سوداوية،  مليئة بالتشاؤم والنكد.

وليؤمل دائما في فضل ربه، وليحسن ظنه به، وليكن رجاؤه  دائما: أن ما هو آتٍ، خير إن شاء الله مع الرضى بقضاء الله والصبر عليه واحتساب ما أصابه عند الله.

والله أعلم.  

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب