الحمد لله.
أولا:
لا حرج في بيع نخلة بنخلتين؛ لعدم وجود علة ربا الفضل بينهما.
والأصل في ذلك: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ رواه مسلم (1587).
وعلة الربا في الأصناف الأربعة، أي البر والشعير والتمر والملح: هي اتحاد الجنس، مع كون كل منها: مطعوما مكيلا، أو مطعوما موزونا، على الراجح، وهو مذهب الشافعي في القديم، ورواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجماعة.
وقيل: العلة الجنس مع الكيل ولو لم يكن مطعوما، وهو مذهب الحنفية والحنابلة.
وقيل: الطعم وحده، وهو مذهب الشافعية.
وقيل: القوت والادخار، وهو مذهب المالكية.
ووجه ترجيح الأول: الجمع بين الأحاديث، فالأربعة المنصوص عليها مكيلة، ودل على اعتبار الوزن: ما روى البخاري (2302) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ، فَقَالَ: إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ: لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا .
وَقَالَ فِي المِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ.
أي أن الربا يجري في الموزونات، كما يجري في المكيلات.
قال ابن بطال، رحمه الله: "(وقال في الميزان مثل ذلك)، يعني: أن الموزونات حكمها في الربا حكم المكيلات.
وهذا عند أهل الحجاز في المطعومات التي يجرى فيها الكيل والوزن، والكوفيون يجعلون علة الربا الكيل والوزن في المطعوم وغيره؛ لقوله في الذهب والورق: (وزنًا بوزن) وقوله في الطعام في حديث عبادة: (مدى بمدى وكيل بكيل)". انتهى، من "شرح صحيح البخاري» لابن بطال" (6/ 437).
ودل على اعتبار الطُّعم: ما روى مسلم (1592) عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ:" أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ، فَقَالَ: بِعْهُ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيرًا، فَذَهَبَ الْغُلَامُ، فَأَخَذَ صَاعًا وَزِيَادَةَ بَعْضِ صَاعٍ، فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ انْطَلِقْ فَرُدَّهُ، وَلَا تَأْخُذَنَّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ: مِثْلًا بِمِثْلٍ ، قَالَ: وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ .
قال الشيخ عبد الله البسام رحمه الله: "وقد اتفق العلماء على أن العلة في الذهب والفضة، غير العلة في الأربعة الباقية، وأن لكل منهما علة واحدة.
ثم اختلفوا في العلة:
فالرواية المشهورة عن الإمام أحمد، في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس، وفى الأربعة الباقية، كونها مكيلة جنس، فيلحق بهما ما شابهما في العلة.
وبهذا القول قال النخعي، والزهري، والثوري، وإسحاق والحنفية.
فعلى هذا يجرى الربَا في كل موزون أو مكيل، بيع بجنسه، سواء أكان مطعوماً، كالحبوب، والسكر، والأدهان، أم غير مطعوم، كالحديد، والصفر والنحاس، والأشنان ونحو ذلك.
وغير المكيل أو الموزون: لا يجرى فيه، وإن كان مطعوما، كالفواكه المعدودة ...
وذهب الشافعي إلى أن العلة، الطعم والجنس، والعلة في الذهب والفضة، كونهما ثمنين للأشياء، فيختص الحكم بهما.
والدليل على ذلك، ما رواه مسلم، عن معمر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الطعام بالطعام، إلا مثلا بمثل ".
فقد علَّق الحكم باسم الطعام، فدل على العلة واشتقاقها.
ووافق الإمام مالكٌ الشافعي في النقدين، أما غيرهما، فالعلة عنده فيه ترجع إلى الجنس والادخار، والاقتيات. وكذلك ما يُصلح الطعام من التوابل. ويرون أن الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث جاءت للتنبيه على ما في معناها، ويجمعها كلها الاقتيات والادخار.
فالبر، والشعير، لأنواعْ الحبوب. والتمر لأنواع الحلويات، كالسكر والعسل. والملح، لأنواع التوابل.
وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد، هي مذهب الإمام الشافعي في القديم، وقال بها سعيد بن المسيب، وهى أن العلة في الأربعة المذكورة في الحديث: الطعم، والكيل أو الوزن؛ فلا يجرى الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالرمان والحض، والبطيخ.
كما لا يجرى في مكيل أو موزون لا يطعم. فلابد من اعتبار الأمرين، لأن الكيل وحده، أو الوزن وحده، لا يقتضي وجوب المماثلة، كما أن الطعم وحده لا تتحقق به المماثلة، لعدم المعيار الشرعي فيه، وإنما تتحقق المماثلة في المعيار الشرعي الذي هو الكيل والوزن.
وبهذا القول تجتمع الأحاديث الواردة في هذه المسألة، ويقيد كل حديث منها بالآخر.
وقد اختار هذا القول صاحب المغنى والشارح عبد الرحمن بن أبي عمر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، رحمهم الله تعالى" انتهى من "تيسير العلام شرح عمدة الأحكام" (1/ 478).
وعلى الأقوال جميعها: لا يجري الربا في النخل؛ لأنه ليس مكيلا ولا مطعوما ولا قوتا مدخرا.
فلا حرج في بيع نخلة بنخلتين، ودار بدارين، وسيارة بسيارتين.
وأما التمر فمنصوص عليه، وهو مكيل مطعوم.
ثانيا:
من باع نخلة هل يدخل معها الأرض أم لا؟
الأصل ألا تتبع، إلا أن يصرح بذلك في العقد، أو يكون العرف جاريا به.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح حديث: (من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع) متفق عليه:
"إذا باع النخل فما الذي يتناوله البيع؟ هل يتناول البيع الشجرة نفسها والأرض أو الشجرة وحدها؟
يعني : مثلا بعت عليك نخلة، فهل يشمل أرضها أو هو خاص بالنخل فقط؟
والفرق بين الأمرين أننا إذا قلنا: إنه يشمل الأرض فماتت تلك الشجرة أو أصابها ما يتلفها، فهل تبقى الأرض للمشتري أو لا؟
إن قلنا: إن الأرض تتبع النخل فإنه تبقى للمشتري .
وإن قلنا: إن الأرض لا تتبع النخل فإن الأرض باقية للبائع.
هذه المسألة نقول: المرجع فيها إلى العرف، والعرف عندنا أنه إذا قال الناس: باع فلان نخله؛ يريدون البستان كله، أرضه وشجره.
فإذا كان العرف يقتضي أن النخل هو الشجر فقط دون الأرض، فإن النخلة إذا تلفت فإن المشتري لها لا يملك غرس شيء مكانها؛ لأن البيع لا يشمل الأرض.
وهكذا قال العلماء فيما إذا رهن نخلا، أو أوقف نخلا، أو ما أشبه ذلك هل الأرض تتبع النخل أو لا؟
فالأصل أن الأرض لا تتبع؛ لأن الأرض أصل، والشجر فرع، كما أن الشجر أصل والثمر فرع، إلا أن يكون هناك عرف يخالف هذا، فالمرجع فيه إلى العرف" انتهى من شرح بلوغ المرام.
والله أعلم.
تعليق