الحمد لله.
أولا:
إذا دعا الرجل زوجته للفراش: لم يجز لها أن تمتنع إلا لعذر كالمرض؛ لما روى البخاري (3237) ومسلم (1736) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ).
وروى مسلم (1736) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهَا، فَتَأْبَى عَلَيْهِ؛ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا).
قال النووي رحمه الله في “شرح مسلم” (10/ 7): ” قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح)، وفي رواية: (حتى ترجع): هذا دليل على تحريم امتناعها من فراشه لغير عذر شرعي. وليس الحيض بعذر في الامتناع؛ لأن له حقا في الاستمتاع بها فوق الإزار.
ومعنى الحديث: أن اللعنة تستمر عليها، حتى تزول المعصية بطلوع الفجر والاستغناء عنها، أو بتوبتها ورجوعها إلى الفراش” انتهى.
ثانيا:
إذا أصرت الزوجة على الامتناع: كانت ناشزا، فيعظها، ثم يهجرها في المضجع، ثم يضربها ضربا غير مبرح، كما قال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) النساء/34، 35
قال البهوتي رحمه الله في “كشاف القناع” (5/ 209): ” (وإذا ظهر منها أمارات النشوز؛ بأن تتثاقل) إذا دعاها، (أو تتدافع إذا دعاها إلى الاستمتاع، أو تجيبه متبرمة متكرهة، ويختل أدبها في حقه: وعظها)؛ بأن يذكر لها ما أوجب الله عليها من الحق، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة، وما يسقط بذلك من النفقة والكسوة، وما يباح له من هجرها وضربها؛ لقوله تعالى {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن} [النساء: 34] .
(فإن رجعتْ إلى الطاعة والأدب، حرم الهجر والضرب)، لزوال مبيحه.
(وإن أصرت) على ما تقدم (وأظهرت النشوز؛ بأن عصته، وامتنعت من إجابته إلى الفراش، أو خرجت من بيته بغير إذنه، ونحو ذلك: هجرها في المضجع ما شاء)، لقوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} [النساء: 34]. وقال ابن عباس ” لا تضاجعها في فراشك “. وقد «هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فلم يدخل عليهن شهرا» متفق عليه.
(و) هجرها (في الكلام ثلاثة أيام، لا فوقها)؛ لحديث أبي هريرة: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»؛ والهجر ضد الوصل، والتهاجر التقاطع (فإن أصرت ولم ترتدع) بالهجر (فله أن يضربها) لقوله تعالى {واضربوهن} [النساء: 34] .
(فيكون الضرب بعد الهجر في الفراش، وتركها من الكلام) ثلاثة أيام، (ضربا غير مبرح، أي غير شديد)؛ لحديث عبد الله بن زمعة يرفعه: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم».
(ويجتنب الوجهَ) تكرِمةً له، (و) يجتنب (البطن والمواضع المخوفة) خوف القتل.
(و) يجتنب المواضع (المستحسنة)؛ لئلا يشوهها …
وفي الترغيب وغيره: والأولى ترك ضربها؛ إبقاء للمودة.
(وقيل) يضربها (بدِرّة، أو مخراق)، وهو منديل ملفوف، (لا بسوط ولا بخشب)؛ لأن المقصود التأديب وزجرها، فيبدأ فيه بالأسهل فالأسهل…
(ويمنع منها) أي من هذه الأشياء (مَن) أي زوج (عُلم بمنعه حقَّها، حتى يؤديه، و) حتى (يحسن عشرتها)؛ لأنه يكون ظالما بطلبه حقه مع منعه حقها” انتهى.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل له زوجة، وهي ناشز تمنعه نفسها؛ فهل تسقط نفقتها وكسوتها؟ وما يجب عليها؟
فأجاب: ” تسقط نفقتها وكسوتها إذا لم تمكنه من نفسها، وله أن يضربها إذا أصرت على النشوز. ولا يحل لها أن تمتنع من ذلك إذا طالبها به، بل هي عاصية لله ورسوله، وفي الصحيح : (إذا طلب الرجل المرأة إلى فراشه فأبت عليه كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح) ” انتهى من “مجوع الفتاوى” (32/ 278). والحديث رواه مسلم (1736).
فالضرب الذي يباح بعد عدم انتفاعها بالوعظ والهجر، هو الضرب غير المبرح: أي غير الشائن، وغير المؤثر وغير الشديد.
قال عطاء: قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالسواك ونحوه. رواه ابن جرير في تفسيره (8/ 315).
ولا يجوز له أن يضربها ضربا شديدا.
وقد ترجم الإمام البخاري، رحمه الله في “صحيحه”: “بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ وَقَوْلِهِ {وَاضْرِبُوهُنَّ} ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ”.
قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله في «فتح الباري» (9/ 302): ” فيه إشارة إلى أن ضربهن لا يباح مطلقا؛ بل فيه ما يكره؛ كراهة تنزيه، أو تحريم، على ما سنفصله”. انتهى.
وقال أيضا: «… ومحل ذلك أن يضربها تأديبا، إذا رأى منها ما يكره فيما يجب عليها فيه طاعته.
فإن اكتفى بالتهديد ونحوه: كان أفضل.
ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام، لا يعدل إلى الفعل؛ لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية؛ إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله.
وقد أخرج النسائي في الباب حديث عائشة: ( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة له ولا خادما قط ولا ضرب بيده شيئا قط؛ الا في سبيل الله صلى الله عليه وسلم أو تنتهك حرمات الله، فينتقم لله)”. انتهى، من «فتح الباري» لابن حجر (9/ 304 ط السلفية).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (238820)، ورقم: (33597).
ثالثا:
لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته حقها، ثم يطالبَها بحقه عليها، ويضربها على ذلك.
وقد سبق في آخر كلام البهوتي المنقول: ” (ويمنع منها) أي من هذه الأشياء (مَن) أي زوج (عُلم بمنعه حقَّها، حتى يؤديه، و) حتى (يحسن عشرتها)؛ لأنه يكون ظالما بطلبه حقه مع منعه حقها” انتهى.
وليس له أن يضربها، ثم يجامعها كرها، وهي على تلك الحال؛ لما في ذلك من الأذى النفسي عليها، واحتمال حصول الضرر.
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ) رواه البخاري (5204)، ومسلم (2855).
وفي لفظ للبخاري (6042): ( بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا ).
والمراد بذلك: بيان شدة التنافي بين الأمرين: ضرب الزوجة، وما يوجبه من النفرة والتكرُّه، وطلب عناقها، أو جماعها، وما يستلزمه ذلك من الأنس، والرغبة، والملاطفة.
قال الإمام أبو العباس القرطبي، رحمه الله: ” و(قوله: إلام يجلد أحدكم امرأته جلد العبد): هذا إنكار على من يجلد زوجته، ويكثر من ذلك حتى يعاملها معاملة الأمة، ثم إنه بعد ذلك باليسير يرجع إلى مضاجعتها، وإلى قضاء شهوته منها، فلا تطاوعه، ولا تتحسن له، وقد تبغضه، وقد يكون هو يحبها، فيفسد حاله، ويتفاقم أمرهما، وتزول الرحمة والمودة التي جعلها الله تعالى بين الأزواج، ويحصل نقيضها، فنبه صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ الوجيز على ما يطرأ من ذلك من المفاسد”. انتهى، من «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» (7/ 429).
وقال أيضا: “المفهوم منه: أنه إنما نهاه عن ضربها؛ لأنه يحتاج إلى مضاجعتها في ثاني حال، فتمتنع عليه لما أساء من معاشرتها، فيتعذر عليه المقصود لأجل الضرب، وتقدير اللفظ: ثم هو يضاجعها» انتهى، من “المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم” (1/ 542).
وقال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: ” “وفي سياقه استبعاد وقوع الأمرين من العاقل أن يبالغ في ضرب امرأته ثم يجامعها من بقية يومه أو ليلته والمجامعة أو المضاجعة إنما تستحسن مع ميل النفس والرغبة في العشرة والمجلود غالبا ينفر ممن جلده فوقعت الإشارة إلى ذم ذلك وأنه إن كان ولا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير بحيث لا يحصل منه النفور التام فلا يفرط في الضرب ولا يفرط في التأديب”. انتهى، من «فتح الباري» لابن حجر (9/ 303).
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
هل يقع على المرأة إثم إن امتنعت عن زوجها حين يطلبها بسبب حالة نفسية عابرة تمر بها ، أو لمرض ألمّ بها ؟
فأجاب :
“يجب على المرأة أن تجيب زوجها إذا دعاها إلى فراشه ، ولكن إذا كانت مريضة بمرض نفسي لا تتمكن من مقابلة الزوج معه ، أو مريضة بمرض نفسي ، فإن الزوج في هذه الحالة لا يحل له أن يطلب منها ذلك ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا ضرر ولا ضرار) وعليه أن يتوقف أو يستمتع بها على وجه لا يؤدي إلى ضرر” انتهى من “فتاوى المرأة المسلمة”. (2/660).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (160090)، ورقم: (151915).
رابعا :
إن خيف الشقاق بين الزوجين، اختارا حكمين ليفصلا بينهما، كما قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) النساء/35
قال السعدي رحمه الله في تفسيره ص 176: ” {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أي: ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن بأن تعصيه بالقول أو الفعل فإنه يؤدبها بالأسهل فالأسهل، {فَعِظُوهُنَّ} أي: ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته والترغيب في الطاعة، والترهيب من معصيته، فإن انتهت فذلك المطلوب، وإلا فيهجرها الزوج في المضجع، بأن لا يضاجعها، ولا يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح، فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور وأطعنكم {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} أي: فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية، والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها ويحدث بسببه الشر.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} أي: له العلو المطلق بجميع الوجوه والاعتبارات، علو الذات وعلو القدر وعلو القهر الكبير الذي لا أكبر منه ولا أجل ولا أعظم، كبير الذات والصفات.
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}.
أي: وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة حتى يكون كل منهما في شق {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} أي: رجلين مكلفين مسلمين عدلين عاقلين يعرفان ما بين الزوجين، ويعرفان الجمع والتفريق. وهذا مستفاد من لفظ “الحَكم” لأنه لا يصلح حكما إلا من اتصف بتلك الصفات.
فينظران ما ينقم كل منهما على صاحبه، ثم يلزمان كلا منهما ما يجب، فإن لم يستطع أحدهما ذلك، قنَّعا الزوج الآخر بالرضا بما تيسر من الرزق والخلق، ومهما أمكنهما الجمع والإصلاح فلا يعدلا عنه.
فإن وصلت الحال إلى أنه لا يمكن اجتماعهما وإصلاحهما إلا على وجه المعاداة والمقاطعة ومعصية الله، ورأيا أن التفريق بينهما أصلح، فرقا بينهما. ولا يشترط رضا الزوج، كما يدل عليه أن الله سماهما حكمين، والحكم يحكم ولو لم يرض المحكوم عليه، ولهذا قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} أي: بسبب الرأي الميمون والكلام الذي يجذب القلوب ويؤلف بين القرينين” انتهى.
والله أعلم.
تعليق