أولًا:
لا تلزم صحة جميع أسانيد وطرق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يكفي في قبوله والعمل به أن يصح من طريق واحدة، أو يصح له إسناد واحد، وألا يكون منسوخًا أو معارَضًا، وقد يأتي الحديث الواحد بإسناد صحيح يرويه الثقات، وإسناد آخر ضعيف، فيكون الاعتماد على الإسناد الصحيح.
وقد نقل الإمام ابن عبد البر إجماع المسلمين على قبول الحديث الصحيح، الذي ثبت بإسناد واحد صحيح، وعلى إيجاب العمل به إذا لم يُنسخ، فقال رحمه الله: "أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار فيما علمتُ: على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به؛ إذا ثبتَ، ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع. على هذا جميع الفقهاء في كل عصر، من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع، شرذمة لا تعد خلافًا"، انتهى من "التمهيد" (1/2).
وقد يأتي المعنى الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة في أحاديث مختلفة، فإذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شيء ولم ينسخ ولم يكن له معارِض، كان ذلك كافيًا كما سبق النقل عن ابن عبد البر رحمه الله.
ثانياً:
لفظ الحديث الوارد في السؤال رواه ابن ماجه في "سننه" (2437)، فقال رحمه الله:
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ثَلَاثٌ لَا يُمْنَعْنَ: الْمَاءُ، وَالْكَلَأُ، وَالنَّارُ، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في "صحيح ابن ماجه" (2021).
وصححه إسناد هذا الحديث جمع من أهل العلم أيضًا، منهم: العراقي في "تقريب الأسانيد" (87)، وابن الملقن في "تحفة المحتاج" (2/297)، وابن حجر في "فتح الباري" (5/32)، وفي "تلخيص الحبير" (3/145).
وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/80): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، أبو يحيى المكي: وثقه النسائي وابن أبي حاتم ومسلمة الأندلسي والخليلي وغيرهم، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين"، انتهى.
وقد رويت أحاديث أخرى بهذا المعنى أو قريب منه، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ، رواه أحمد (23082)، وأبو داود (3477)، وابن ماجه (2472)، وصححه محققو المسند، والشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (1552) وبين ضعف زيادةٍ أتت في رواية ابن ماجه.
وعدَّ ابن الملقن في "البدر المنير" (17/470) ثمانية أحاديث بهذا المعنى أو قريب منه، وبيَّن ضعف بعضها وصحة بعض.
ثالثًا:
هذا الحديث قد شرحه العلماء وبيَّنوا معناه:
قال الخطابي في "معالم السنن" (3/129): "معناه: الكلأ ينبت في موات الأرض يرعاه الناس، ليس لأحد أن يختص به دون أحد، ويحجزه عن غيره، وكان أهل الجاهلية إذا غزا الرجل منهم؛ حمى بقعة من الأرض لماشيته ترعاها، يذود الناس عنها، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعل الناس فيها شَرَعاً، يتعاورونه بينهم، فأما الكلأ إذا نبت في أرض مملوكة لمالك بعينه؛ فهو مالٌ له، ليس لأحد أن يشركه فيه إلاّ بإذنه.
وأما قوله: "والنار"؛ فقد فسره بعض العلماء، وذهب إلى أنه أراد به الحجارة التي توري النار. يقول: لا يُمنع أحد أن يأخذ منها حجرًا يقتدح به النار.
فأما التي يوقدها الإنسان؛ فله أن يمنع غيره من أخذها. وقال بعضهم: ليس له أن يمنع من يريد يأخذ منها جذوة من الحطب التي قد احترق فصار جمرًا، وليس له أن يمنع من أراد أن يستصبح منها مصباحًا أو أدنى منها ضغثًا يشتعل بها، لأن ذلك لا ينقص من عينها شيئًا"، انتهى.
وقال ابن الملقن في "البدر المنير" (17/479):
"المراد بالماء: ماء السماء وماء العيون التي لا مالك لها. قاله الأزهري.
والمراد بالكلأ: مراعي الأرضين التي لا يملكها أحد، قاله أيضا.
أما الكلأ النابت في الأملاك فهي لمُلَّاكها ...
والمراد بالنار: الشجر الذي تحتطبه الناس فينتفعون به. قاله الأزهري أيضاً.
وقال القاضي حسين: المراد بالنار: إذا أضرمت في حطبٍ غير مملوك، أما الذي أضرمت في حطب مملوك؛ فلمالك الحطب منع غيره من تلك النار"، انتهى باختصارٍ.
وانظر كذلك ما ذكره الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/221) ضمن شرحه لحديث: لا ضرر ولا ضرار.
وللمزيد حول معنى الحديث تراجع إجابة السؤال: (70274).
والله أعلم.