الحمد لله.
ذكر فقهاء المالكية مسألة حرمة الحروف العربية في (باب ما يحرم الاستنجاء والاستجمار به)، ونصوا على أنه لا يجوز الاستنجاء بمكتوب بالعربية، سواء كان المكتوب فيه آيات أو أحاديث، أو ما فيه اسم الله، أو غيرها من الكلام، مادام أنه كُتِب بالعربية.
قال الخرشي المالكي في: "شرح الخرشي على مختصر خليل" (1/ 150):
فيما يحرم الاستجمار به: "كالمكتوب لحرمة الحروف، ولو باطلا كالسحر، ولو توراة وإنجيلا مبدلة، لما فيها من أسماء الله تعالى، وأسماؤه لا تبدل، إنما الباطل ما في التوراة والإنجيل من تحريف" انتهى
وقال الدسوقي المالكي في "وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (1/ 113):
«قوله: (لحرمة الحروف) أي لشرفها. قال الشيخ إبراهيم اللقاني محل كون الحروف لها حرمة إذا كانت مكتوبة بالعربي؛ وإلا، فلا حرمة لها، إلا إذا كان المكتوب بها من أسماء الله" انتهى
والمالكية لم يذكروا دليلا، وإنما عللوا ذلك بأن لها حرمة لأنها لغة القرآن، فهي محل تعظيم.
وهذا عندهم في باب الاستنجاء والاستجمار.
وأما أبواب الاستخدام الأخرى: فقد فرقوا بين الكلام المعظم وبين غيره، فحرموا استخدام المكتوب المعظم بأي صورة فيها امتهان. وكرهوه فيما ليس بمعظم.
قال ابن الحاج المالكي رحمه الله في "المدخل" (4/ 89):
"ويتعين عليه -أي الذي يقوم بتجليد الكتب-أن ينظر في الورق الذي يُبَطِّن به، فإن الغالب على بعض الصناع في هذا الزمان أنهم يستعملون الورق، من غير أن يعرفوا ما فيه. وذلك لا يجوز؛ لأنه قد يكون فيه القرآن الكريم، أو حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – أو اسم من أسماء الملائكة أو الأنبياء – عليهم السلام -؛ وما كان من ذلك كله فلا يجوز استعماله، ولا امتهانه؛ حرمة له، وتعظيما لقدره.
وأما إن كان فيه أسماء العلماء أو السلف الصالح – رضي الله عنهم – أو العلوم الشرعية: فيكره ذلك، ولا يبلغ به درجة التحريم كالذي قبله.
وطالب العلم أولى بأن ينزه نفسه عن الدخول في المكروه" انتهى
وأما الجمهور فجعلوا التعظيم لما هو مكتوب وليس للحروف، كما سيأتي.
ثانياً:
ذهب أصحاب المذاهب الأخرى إلى أنه لا يحرم الاستجمار إلا إذا كان نفس المكتوب بالحرف العربي شيئا معظما؛ مثل الآيات والأحاديث وأسماء الله والأنبياء.
وأما ما ليس كذلك فلا يحرم.
قال الهروي الحنفي في "فتح باب العناية بشرح النقاية" (1/ 173):
"صَرَّح بعضُ الحنفيةِ والشافعية: أنه يُكرَهُ الاستنجاءُ بالورقِ المجرَّد. وجُوِّزَ به، إذا كان فيه عِلمُ المنطِق، إذا لم يكن فيه ذِكرُ الله وذِكرُ رسولِه، وكذا الشِّعْرُ المذمومُ الخالي عن ذكرِهما" انتهى
وجاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (34/ 181):
"اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز الاستنجاء بمحترم، كالكتب التي فيها ذكر الله تعالى ككتب الحديث والفقه؛ لحرمة الحروف، ولما في ذلك من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها .
واختلفوا في الكتب غير المحترمة، ومثلوا لها بكتب السحر والفلسفة وبالتوراة والإنجيل إذا علم تبدلهما.
فذهب المالكية إلى أنه لا يجوز الاستنجاء بهذه الكتب لحرمة الحروف، أي لشرفها.
قال إبراهيم اللقاني: محل كون الحروف لها حرمة، إذا كانت مكتوبة بالعربي؛ وإلا، فلا حرمة لها؛ إلا إذا كان المكتوب بها من أسماء الله تعالى. وقال علي الأجهوري: الحروف لها حرمة، سواء كتبت بالعربي أو بغيره.
وقال الحطاب: لا يجوز الاستجمار بالمكتوب، ولو كان المكتوب باطلا كالسحر؛ لأن الحرمة للحروف، وأسماء الله تعالى إن كتبت في أثناء ما تجب إهانته كالتوراة والإنجيل بعد تحريفهما، فيجوز إحراقها وإتلافها، ولا يجوز إهانتها؛ لأن الاستنجاء بهذه الكتب إهانة، لمكان ما فيها من أسماء الله تعالى؛ لأنها وإن كانت محرمة، فإن حرمة أسماء الله تعالى لا تُبدَّل على وجه.
وذهب الشافعية إلى أن غير المحترم من الكتب، ككتب الفلسفة، وكذا التوراة والإنجيل: إذا علم تبدلهما، وخلوهما عن اسم معظم: فإنه يجوز الاستنجاء به.
وقال ابن عابدين من الحنفية: نقلوا عندنا أن للحروف حرمة، ولو مقطعة.
وذكر بعض القراء أن حروف الهجاء قرآن، أنزلت على هود عليه السلام.
ومفاده: الحرمة بالمكتوب مطلقا".
ومما سبق يتبيّن أنّ مذهب الجمهور أنه ليس للحرف حرمة بذاته، وإنما حرمته باعتبار ما كُتب به، إن كان معظما ..
وأن المالكية اعتبروا التعظيم للحروف العربية لكونها لغة القرآن.
والله أعلم.
تعليق