أولا:
الحج عن الغير بمال، يقع على صورتين:
الأولى: النيابة عنه، والنائب لا يأخذ أجرة، وإنما يأخذ نفقة السفر والحج، فيأخذ من المال وينفق بالمعروف، ويرد ما فضل، إلا أن يأذن له فيه من أنابه.
قال البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع" (2/398): " النائب أمين فيما أُعطيه ليحج منه، فيركب وينفق منه بالمعروف، ويضمن ما زاد على ذلك، ويرد ما فضل، وتحسب له نفقة رجوعه، ولو طالت إقامته بمكة، ما لم يتخذها دارا، فإن اتخذها دارا، ولو ساعة، فلا نفقة لرجوعه" انتهى.
فإذا كنت نائبا، ولم تنفق شيئا لكونك حججت مجانا، فإنك ترد جميع المال.
الصورة الثانية: الإجارة، بأن تحج عنه بأجرة، فتستحق الأجرة المتفق عليها، ولو حججت مجانا.
والإجارة على الحج لا تجوز عند الحنفية والحنابلة، وتكره عند المالكية، وتجوز عند الشافعية.
جاء في "الموسوعة الفقهية" (12/ 164): "الأصل أن كل طاعة يختص بها المسلم: لا يجوز أخذ الأجرة عليها، كالإمامة والأذان والحج والجهاد وتعليم القرآن؛ لما روى عثمان بن أبي العاص قال: "إن آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا"، ولأن القربة متى حصلت، وقعت عن العامل، ولهذا تعتبر أهليته، فلا يجوز أخذ الأجر عن غيره كما في الصوم والصلاة.
هذا مذهب الحنفية، وهو رواية عند الحنابلة.
ويصح مع الكراهة عند المالكية. جاء في الشرح الصغير: تكره إجارة الإنسان نفسه في عمل لله تعالى، حجا أو غيره، كقراءة وإمامة وتعليم علم، وصحته مع الكراهة. كما تكره الإجارة على الأذان، قال مالك: لأن يؤاجر الرجل نفسه في عمل اللبِن وقطع الحطب وسوق الإبل أحب إلي من أن يعمل عملا لله بأجرة.
وقال الشافعية، كما في نهاية المحتاج: لا تصح إجارة مسلم لجهاد، ولا لعبادة يجب لها نية، وألحقوا بذلك الإمامة ولو لنفل؛ لأنه حصل لنفسه.
أما ما لا تجب له نية، كالأذان: فيصح الاستئجار عليه.
واستثني مما فيه نية: الحج والعمرة، فيجوز الاستئجار لهما، أو لأحدهما، عن عاجز أو ميت. وتقع صلاة ركعتي الطواف تبعا لهما.
وتجوز الإجارة عن تفرقة زكاة وكفارة وأضحية وهدي وذبح وصوم، عن ميت، وسائر ما يقبل النيابة، وإن توقف على النية؛ لما فيها من شائبة المال" انتهى.
وقد نص الإمام الشافعي، رحمه الله، على جواز الإجارة على الحج والعمرة، وعلى عمل الخير كله. قال: "ولا بأس بالإجارة على الحج وعلى العمرة وعلى الخير كله، وهي على عمل الخير أجوز منها على ما ليس بخير ولا بر من المباح". انتهى، من "الأم" (2/140).
فعلى ذلك؛ إذا كنت أجيرا: فلك أخذ الأجرة، ولو حججت مجانا.
ثانيا:
الفرق بين النيابة والإجارة: أن النائب يأخذ قدر نفقته وركوبه وتكلفة شركة الحج ونحو ذلك، ويرد ما زاد، وأما الأجير فيتفق على مبلغ معين، لا يرتبط بنفقته، ولا يرد ما فضل منه، وثمة فروق أخرى بينها الفقهاء.
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (3/ 235): " وفائدة الخلاف:
أنه متى لم يجز أخذ الأجرة عليها، فلا يكون إلا نائبا محضا، وما يدفع إليه من المال يكون نفقة لطريقه، فلو مات، أو أحصر، أو مرض، أو ضل الطريق، لم يلزمه الضمان لما أنفق. نص عليه أحمد؛ لأنه إنفاق بإذن صاحب المال، فأشبه ما لو أذن له في سد بثق، فانبثق ولم ينسد... وما فضل معه من المال رده، إلا أن يؤذن له في أخذه، وينفق على نفسه بقدر الحاجة، من غير إسراف ولا تقتير، وليس له التبرع بشيء منه، إلا أن يؤذن له في ذلك. قال أحمد، في الذي يأخذ دراهم للحج: لا يمشي، ولا يقتر في النفقة، ولا يسرف.
وقال في رجل أخذ حجة عن ميت، ففضلت معه فضلة: يردها، ولا يناهد أحدًا إلا بقدر ما لا يكون سرفا، ولا يدعو إلى طعامه، ولا يتفضل...
وإن قلنا: يجوز الاستئجار على الحج، جاز أن يقع الدفع إلى النائب من غير استئجار، فيكون الحكم فيه على ما مضى.
وإن استأجره ليحج عنه أو عن ميت، اعتبر فيه شروط الإجارة؛ من معرفة الأجرة، وعقد الإجارة. وما يأخذه أجرة له يملكه، ويباح له التصرف فيه، والتوسع به في النفقة وغيرها، وما فضل فهو له، وإن أُحصر، أو ضل الطريق، أو ضاعت النفقة منه، فهو في ضمانه، والحج عليه، وإن مات، انفسخت الإجارة؛ لأن المعقود عليه تلف، فانفسخ العقد، كما لو ماتت البهيمة المستأجرة" انتهى.
ثالثا:
أخذ الأجرة على الحج ليس من عمل الصالحين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن عليه دين، ويحج عن غيره بأجرة، ليوفر مالا يسد به دينه:
"الحاج عن الغير لأن يوفي دَيْنَه: فقد اختلف فيها العلماء أيهما أفضل؟
والأصح : أن الأفضل : الترك ؛ فإن كون الإنسان يحج لأجل أن يستفضل شيئاً من النفقة : ليس من أعمال السلف ، حتى قال الإمام أحمد : ما أعلم أحداً كان يحج عن أحدٍ بشيءٍ ، ولو كان هذا عملاً صالحاً : لكانوا إليه مبادرين ، والارتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين ، أعني: إذا كان إنما مقصوده بالعمل اكتساب المال.
وهذا المَدين: يأخذ من الزكاة ما يوفي به دَيْنه، خير له من أن يقصد أن يحج ليأخذ دراهم يوفي بها دَيْنه ، ولا يستحب للرجل أن يأخذ مالاً يحج به عن غيره، إلا لأحد رجلين :
إما رجل يحب الحج ، ورؤية المشاعر ، وهو عاجز ، فيأخذ ما يقضي به وطره الصالح ، ويؤدي به عن أخيه فريضة الحج .
أو رجل يحب أن يُبرئ ذمَّة الميت عن الحج ، إما لصلة بينهما ، أو لرحمة عامة بالمؤمنين ، ونحو ذلك ، فيأخذ ما يأخذ ليؤدي به ذلك .
وجِماع هذا: أن المستحب أن يأخذ ليحج، لا أن يحج ليأخذ.
وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح ، فمن ارتزق ليتعلم ، أو ليعلِّم ، أو ليجاهد : فحسن ... .
وأمَّا من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق: فهذا من أعمال الدنيا.
ففرق بين من يكون الدين مقصودَه ، والدنيا وسيلة، ومن تكون الدنيا مقصوده، والدِّين وسيلة.
والأشبه: أن هذا ليس له في الآخرة مِن خلاق، كما دلت عليه نصوص" انتهى من "مجموع الفتاوى" (26/ 19).
فإذا حججت مجانا، فإما أن تجعل الحج لنفسك، وتعتذر لصاحبك، وهو الخير لك. وإما أن تحج عن قريبك مجانا؛ فهو أحسن من أن تأخذ عليه جُعلا أو مالا.
فإن أبيت إلا أخذ المال، فقد تقدم ذكر من أجازه، لكن قد يعلم صاحبك أنك حججت على حساب الوزارة، فيسوء ما بينك وبينه.
والله أعلم.