44

هل يمكن لصاحب الكبائر أن يشعر بقرب الله تعالى؟

السؤال: 548073

هل يمكن أن يهَب الله تعالى عبدا شعورَ القرب منه، فيشعر العبد أنّ الله معه حتى لو كان وحده، بالرغم من اقترافه ذنوبا كبيرة وكثيرة؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

إذا أردنا الجواب عن سؤالك، على جهة الإجمال، فنقول: نعم هذه الهبة ممكنة، لكن لا بد أن يسبقها الندم والتوبة من هذه الذنوب، وتحصيل الأعمال المقرِّبة من الله تعالى، فإنها هبة لا تكون إلا مشروطة، لا تحصل إلا بوجود الشرط.

وعلى نفس الجهة من الإجمال نقول:

إن تعرف الله جل جلاله إلى عباده، بما عرفهم به من أسمائه وصفاته التي تدل على "القرب" و"الإحاطة"، من العلم، والسمع، والبصر، ونحو ذلك: تتنوع سياقاتها في الكتاب العزيز، وتتنوع دلالاتها تبعا لذلك؛

فتارة تذكر تمدُّحا، ولا أحدَ أحب إليه المِدحة من الله، كَقَوْلِه جلّ ثَنَاؤُهُ: هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ * هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ ٱلۡمُهَيۡمِنُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡجَبَّارُ ٱلۡمُتَكَبِّرُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشۡرِكُونَ * هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ [الحشر: 22-24]. وكقوله: لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ [الشورى: 11]. وكقوله: وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٖ مُّحِيطٗا [النساء: 126]. ونحو ذلك كثير.

وتارة تذكر تهديدًا، كَقَوْلِه: وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ [البقرة: 19]، وقوله: وقوله: بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكۡذِيبٖ * وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطُۢ [البروج: 19-20]. وقوله: أَمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّا لَا نَسۡمَعُ سِرَّهُمۡ وَنَجۡوَىٰهُمۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيۡهِمۡ يَكۡتُبُونَ [الزخرف: 80].

وتذكر تسكينا وتطمينا، كَقَوْلِه: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ [التوبة: 40]، وقوله: وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ [آل عمران: 120]، وقوله: قَالَ لَا تَخَافَآۖ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ [طه: 46].

وتذكر ترغيبًا، كَقَوْلِه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ [البقرة: 186].

وينظر، للفائدة: "الإمام في بيان أدلة الأحكام"، للعز ابن عبد السلام (ص223).

ومع أن مدلول هذه الأسماء والصفات، ومعانيها في اللغة: مراد منها بكل حال؛ فدلالاتها السياقية، ولوازمها المعنوية عادة ما تكون مرادة أيضا، بل قد تكون هي المرادة بالقصد الأول.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:

" فالله تعالى عالم بعباده، وهو معهم أينما كانوا.

وعلمه بهم: من لوازم المعية؛ كما قالت المرأة: زوجي طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد؛ فهذا كله حقيقة. ومقصودها: أن تعرف لوازم ذلك، وهو طول القامة والكرم، بكثرة الطعام وقرب البيت من موضع الأضياف.

وفي القرآن: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم الآية؛ فإنه يراد برؤيته وسمعه: إثبات علمه بذلك.

وأنه يعلم: هل ذلك خير أم شر؛ فيثيب على الحسنات، ويعاقب على السيئات.

وكذلك إثبات القدرة على الخلق، كقوله: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء، وقوله: أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون؛ والمراد: التخويف بتوابع السيئات ولوازمها من العقوبة والانتقام.

وهكذا؛ كثيرا ما يصف الرب نفسه بالعلم بالأعمال؛ تحذيرا وتخويفا وترغيبا للنفوس في الخير. ويصف نفسه بالقدرة والسمع والرؤية والكتاب.

فمدلول اللفظ مراد منه، وقد أريد أيضا لازم ذلك المعنى؛ فقد أريد ما يدل عليه اللفظ في أصل اللغة بالمطابقة، وبالالتزام؛ فليس اللفظ مستعملا في اللازم فقط، بل أريد به مدلوله الملزوم، وذلك حقيقة. وأما لفظ " القرب " فقد ذكره تارة بصيغة المفرد وتارة بصيغة الجمع؛"

"مجموع الفتاوى" (5/ 232).

ثانيا:

إذا أخذنا في قول أكثر تفصيلا لجواب سؤالك، فنقول هنا:

ماذا تقصدين بقرب الله من عبده، وهو مقيم على معاصيه:

إن كنت تقصدين أنه قريب؛ بعلمه، وسمعه، وبصره، وإحاطته بالخلائق؟

أما القرب الذي هو بمعنى "إحاطة الله" جل جلاله بكل شيء في كونه، وكل عمل من أعمال عباده، لا يخفى عليه منه شيء؛ فنعم، ذلك ممكن لكل عبد من عباد الله أن ينتبه إلى مثل ذلك، ويقذف في قلبه مثل ذلك الشعور؛ بل واجب عليه أن يستحضره، وينتبه له، لا يغطي عليه هواه، وشيطانه.

لكن أي شيء ينفع العاصي بذلك، وهو مقيم على معصيته، لا ينزجر عنها، ولا يخاف مقام ربه فيها: لا ينفعه ذلك شيئا؛ بل هو من تمام حجة الله عليه.

وَمَا انْتِفَاع ‌أخي ‌الدُّنْيَا بناظره * إِذا اسْتَوَت عِنْده الْأَنْوَار وَالظُّلم

والله جل جلاله إنما تعرف إليه بذلك في هذا المقام، ليخوفه، ويرده عن معاصيه، ويزعجه بأسباب الخوف والوعيد، عن أن يقيم على معاصيه، ويثير فيه نخوة المروءة، وزاجر الحياء من الله؛ أن يراه حيث نهاه، أو يفتقده حيث أمره.

أما أن يشعر العاصي المذنبُ ذنوبا كبيرة وكثيرة، القائم عليها: أن الله معه بعلمه المحيط، يكتب عمله ويحصيه؛ ثم لا يحجزه ذلك عن الذنب، ولا يحمله على التوبة؛ فذلك أبعد له، وهذه حال مذمومة قبيحة، وليست هبةً يُفرح بها، بل يُخشى أن تكون هذه حال المعاقَب على إصراره على الذنب، بضعف إرادته للتوبة، وضعف تعظيم الله في قلبه!

قال ابن القيم رحمه الله في شرحه عقوبات الذنوب:

"ومنها - وهو من أخوفها على العبد - أنها تُضعِف القلبَ عن إرادته، فتقوَى إرادةُ المعصية، وتضعُف إرادةُ التوبة، شيئًا فشيئًا، إلى أن تنسلخ من قلبه إرادةُ التوبة بالكلية، فلو مات نصفه لما تاب إلى الله، فيأتي من الاستغفار، وتوبة الكذّابين، باللسان: بشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية، مُصِرّ عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنَتْه"، انتهى من "الجواب الكافي" (ص141).

وقال رحمه الله في (ص170) منه:

"ومن عقوبات الذنوب: أنّها تُضْعِف في القلب تعظيمَ الربّ جلَّ جلاله، وتُضْعِف وقارَه في قلب العبد ولا بدّ، شاء أم أبى، ولو تمكَّن وقارُ الله وعظمتُه في قلب العبد لما تجرّأ على معاصيه.

وربما اغترّ المغترّ وقال: إنما يحملني على المعاصى حسنُ الرَّجاء وطمعي في عفوه، لا ضعف عظمته في قلبي!

وهذا من مغالطة النفس؛ فإنّ عظمةَ الله وجلالَه في قلب العبد، وتعظيمَ حرماته: تَحُول بينه وبين الذنوب، فالمتجرّئون على معاصيه ما قدروه حقّ قدره، وكيف يقدره حقَّ قدره أو يعظِّمه ويكبّره ويرجو وقاره ويُجلّه مَن يهون عليه أمرُه ونهيُه؟ هذا من أمحل المحال، وأبين الباطل!

وكفى بالعاصي عقوبةً أن يضمحلَّ من قلبه تعظيمُ الله جلَّ جلاله، وتعظيمُ حرماته، ويهونَ عليه حقّه"، انتهى.

قال ابن القيم رحمه الله: "حظ العبد من القرب من الله؛ على قدر حظه من مقام الإحسان"، انتهى من "رسالته إلى أحد إخوانه" (ص39).

وإن كنت تريدين شعور العبد بالقرب، وهو متلبس بمعصيته؛ فذلك أبعد له.

وتأملي هذا الحديث العظيم الجليل، من أحاديث النبي، فهو مخيف، مزعج للعاقل الخائف على نفسه، عن الركون إلى المعاصي، والغرور بالإماني:

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ‌لَا ‌يَزْنِي ‌الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ.

فهل هذا المقام الذي يخسر فيه العبد ما يخسر من إيمانه، وينقص منه ما جنت عليه معصيته؛ مقام طمع في "القرب" و"المعية"؟ أم هو مقام الحياء من الجناية، أن يراه الله على حال يكرهها؟ وأن يطلع عليه، وهو يبارزه بمعاصيه؟ أم هو مقام الخوف من الله، أن يحل عليه عقابه، أو يغلق عنه باب توبته؟

وفي حديث أبي ذر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:

كَمَا ‌لَا ‌يُجْتَنَى ‌مِنَ ‌الشَّوْكِ الْعِنَبُ لَا يَنْزِلُ الْفُجَّارُ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ، وَهُمَا طَرِيقَانِ فَأَيُّهُمَا أَخَذْتُمْ أَدَّتْكُمْ إِلَيْهِ. رواه أبو نعيم في "الحلية" (10/31) وأبو الشيخ في "أمثال الحديث" (122)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (2046).

وهذه دعوة إلى الفرار إلى الله، أرحم الراحمين، الفرار بالنفس من ظلام المعصية، وشرها، وخطرها، إلى حظيرة أرحم الراحمين، قبل فوات الأوان؛ بدل أن يخدع العبد نفسه بالأماني.

عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْكَيِّسُ: مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، ‌وَتَمَنَّى ‌عَلَى ‌اللهِ).

رواه أحمد (17123)، والترمذي (2459)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ".

قال السندي: قوله: "من دان نفسه" أي: أذلّها واستعبدها، وقيل: حاسبها.

"أَتْبَعَ نَفْسَه هواها" أي: جعل نفسه تابعة لهواها يعطيها كل ما تهوى وتشتهي.

"وتمنّى على الله": بأنه كريم غفور رحيم غنيٌّ عنه وعن عمله، فلا يعاقبه، بل يدخله الجنة، ويعطيه ما يشتهي". كذا في "حاشية المسند" (28/350).

«وَكَانَ ‌الْعَلَاءُ ‌بْنُ ‌زِيَادٍ يُذَكِّرُ النَّارَ.

فَقَالَ رَجُلٌ: لِمَ ‌تُقَنِّطُ ‌النَّاسَ؟

قَالَ: وَأَنَا أَقْدِرُ أَنْ أُقَنِّطَ النَّاسَ، وَاللهُ عز وجل يَقُولُ: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَيَقُولُ: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ؟!

وَلَكِنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ، عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِكُمْ؛ وَإِنَّمَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَمُنْذِرًا بِالنَّارِ مَنْ عَصَاهُ". ذكره البخاري في "صحيحه" (6/ 127).

وثم شعور بالقرب: يمكن أن يرد على قلب العاصي، بل كثيرا ما يكون ذلك؛ وهو شعوره بقرب الله جل جلاله، لو أنه طرق بابه، وقربه برحمته وتوبته، إن هو عاد إليه، وأقبل عليه، وأن ذنبه ومعصيته، مهما كبرت، ليست هي نهاية الطريق إلى الله، بل ما زال هناك أمل، ما دامت فيه روح تشعر، وعين تطرف.

وهذا الشعور بـ"القرب"، من شأنه أن يدعو المذنب إلى الفرار إلى الله، وترك ما هو مقيم عليه من معاصيه.

قال الله تعالى: فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ مُّبِينٞ * وَلَا تَجۡعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ مُّبِينٞ [الذاريات: 50-51].

وقال تعالى: قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَأَسۡلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلۡعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَٱتَّبِعُوٓاْ أَحۡسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلۡعَذَابُ بَغۡتَةٗ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ [الزمر: 53-55].

عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللهِ أَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا عَنْ نَفْسِهِ، وَحَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلَكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ، وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ . رواه البخاري (6308) ومسلم (2744).

فتأملي؛ كيف كان الهلاك والموت من ذلك الرجل الذي ضلت عنه أسباب الحياة والنجاة؛ قريبا؛ جد قريب؛ فإذا رب العالمين، وأرحم الراحمين: أقرب إليه، لما رحل إليه بالتوبة، فتقبله، وأدناه؟!

وفي رواية لمسلم، لهذه القصة (2675): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللهُ عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي، وَاللهِ لَلَّهُ ‌أَفْرَحُ ‌بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالْفَلَاةِ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ.

فتأملي، أيتها السائلة الكريمة؛ كيف أن أرحم الراحمين: دعا عباه إليه، ودلهم عليه؛ ثم عرفهم: كيف يكون القرب منه؛ فمن تقرب إلى الله شبرا، تقرب إليه باعا؛ وكان خيرا مما ظن العبدُ، أو رجا.

ولقد أحسن الذي قال: "ومن رحل إلى الله: قرُبت مسافتُه"!!

ولما سأل الناس عن الله جل جلاله: أقريب هو، فنناجيه، أم بعيد، فنناديه – كانوا قد سألوه، عن: كيف يعملون؟ - فأجابهم:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ [البقرة: 186].

فتأملي؛ كيف دلهم عليه؛ وأمرهم بما يقرب إليه: أن يستجيبوا له، ويؤمنوا به.

ثالثًا:

أن مجرد الشعور بالقرب، بلا تحصيل سبب؛ لا يُلتفت إليه، فإنَّ الله تعالى قد بيَّن للعباد ما يتقربون به إليه، وما يتقرب به إليهم، وما يكون معهم به بنصره وتأييده ومعونته وحمايته، وسبق ذكر شيء من ذلك.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال: من عادى لي وليًّا؛ فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) الحديث، رواه البخاري (6502).

ففي الحديث أن القرب من الله هو الولاية، فالمقرَّبون هم أولياء الله، والأمر كما قال ابن القيم رحمه الله: "الولاية هي القرب من الله عز وجل، فولي الله: هو القريب منه، المختص به، والولاء هو في اللغة: القرب، ولهذا: علامات، وأدلة، وله: أسباب، وشروط، وموجبات، وله: موانع وآفات وقواطع". انتهى من "بدائع الفوائد" (3/ 1014).

والعبد متى وجد في قلبه مثل هذا الشعور، فالواجب عليه أن يغتنمه، ويبارد بالتوبة النصوح إلى ربه، والعودة إلى رحابه، وطرق بابه، والفرار إلى رحمته من غضبه، وإلى طاعته من معصيته. وأن يحذر التسويف، والأماني الكاذبة.

قال الله تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ * وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ [الأنفال: 24-25].

وليحذر العبد من أن يعرض عن داعي الإيمان والتوبة، ويغمض عينيه عن النور الذي أضاء له، فيسلب ذلك كله.

قال مالك بن دينار: الإيمان يبدو في القلب ضعيفا ضئيلا كالبقلة؛ فإن صاحبه تعاهده فسقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة وأماط عنه الدغل وما يضعفه ويوهنه أوشك أن ينمو أو يزداد ويصير له أصل وفروع وثمرة وظل إلى ما لا يتناهى حتى يصير أمثال الجبال. وإن صاحبه أهمله ولم يتعاهده جاءه عنز فنتفتها أو صبي فذهب بها وأكثر عليها الدغل فأضعفها أو أهلكها أو أيبسها كذلك الإيمان. نقله شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (7/ 225).

وأخيرًا؛ فكون الذنب من الكبائر، إنما يعرف أيضًا بالشرع، فلا ينبغي الحكم بكبر الذنب أو صغره إلا وفق القواعد الشرعية، وللفائدة ينظر جواب السؤال: (127480).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android