الحمد لله.
كره بعض السلف أن يقول الرجل: لا , بحمد الله..
قال ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 240): "من كره أن يقول: لا , بحمد الله .. ثم ذكر بسنده عن عمرو بن ميمون: " أنه كره: لا بحمد الله ".. وروى بسنده عن إبراهيم، قال: " يكره أن يقول الرجل: لا بحمد الله، ولكن قولوا: نعم , نحمد الله ". انتهى. وروى أثر إبراهيم النخعي عبد الرزاق الصنعاني في "مصنفه" (7/ 245).
والمشهور: أن ذلك جائز لا حرج فيه، وإنما الفصل بين حرف النفي (لا)، والجملة بعدها بفاصل لفظي -الواو، عادة-: هو من باب الظَّرْف ومحاسن الأدب، والفطنة؛ وإلا، فالقرينة الحالية والسياقية كافيه في بيان مراد القائل، ودالة عليه، وهي مغنية عن "التزام" الفصل اللفظي.
على أنه كثيرا ما يحصل الفصل بينهما بنفَس يسير. وأدنى ما يكون من ذلك تغيير طريقة النطق، وموضع النبر، بما يشير إلى مراد المتكلم؛ مع أن القرينة الحالية كافية في ذلك، إن شاء الله.
وفي "صحيح مسلم" (2504) : "عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، أَتَى عَلَى سَلْمَانَ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللهِ مَأْخَذَهَا، قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ، فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ أَغْضَبْتُكُمْ؟ قَالُوا: لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَخِي". الشاهد "لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَخِي".
ولما في الصحيحين واللفظ لمسلم (1720) في قصة سليمان عليه السلام : فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا يَرْحَمُكَ اللهُ، هُوَ ابْنُهَا... ولفظ البخاري (3427): "لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ".
قال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" (1/ 99):
"في هذا الحديث فائدة حسنة، وهي اتصال كلمة (لا)، جواباً في النهي، مع الدعاء، كما تقول للرجل: كان في كذا في أمر لم يكن. فيقول له صاحبه: لا. يرحمك الله؛ أي لم يكن ذلك، ثم يبتديء به الدعاء فيقول: رحمك الله.
والعامة: تكرهه؛ فإن قالته، زادت (الواو)، فتقول، لا ويرحمك الله" انتهى.
ومراعاة قصد المتكلم هنا متعيّن، فإن المتكلم يقصد الدعاء للشخص الذي يخاطبه ، ولا يقصد الدعاء عليه .
قال ابن القيم رحمه الله : "قاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها: أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات" انتهى من "إعلام الموقعين" (3/79).
وقد ذكر العلماء أنه ينبغي لمن قال ذلك أن يقف بعد (لا)، ويسكت سكتة لطيفة، ثم يقول (جزاك الله خيرا). أو يزيد الواو ، فيقول : لا، وجزاك الله خيراً.
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقول أبى بكر لسلمان وأصحابه: " يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي"، كذا جاء في هذا الحديث، وقد روي عن أبى بكر أنه نهى عن مثل هذا، وقال: قل: عافاك الله، رحمك الله، لا. يريد: ألا تقدم " لا " قبل الدعاء، لاقتضائها نفيه فى الظاهر، ولأنه قد يكون مثل هذا ذريعة للمجَّان (أي: الفسقة، قليلي الحياء) وغيرهم من قصدهم هذا في صورة الدعاء.
وقد قال بعضهم: قل: لا، ويغفر الله لك، فيزول الإيهام والاحتمال". انتهى من "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/549).
وفي "شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن" (12/ 3934):
"قوله: (لا): يجب أن يوقف عليه، ويستأنف من قوله: (يغفر الله لك) ولو زاد (واو) كما في جواب اليزيدي عن سؤال المأمون: لا وجعلني الله فداءك لحسن موقعه" انتهى.
وينظر للفائدة: "معجم المناهي اللفظية"، للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله (676).
والحاصل:
أنه لا حرج على من قال لصاحبه: (لا. يرحمك الله)، وإن كان الأحسن في الأدب أن يفصل بينهما بواو. فإن لم يفعل، ميز بينهما بسكتة لطيفة. ومتى دلت القرينة الحالية على مراده، فلا بأس به، إن شاء الله.
والله أعلم.
تعليق