الحمد لله.
إذا حرم الرجل زوجته بأن قال : أنت علي حرام ، فهل يكون هذا ظهارا أو طلاقا أو فيه كفارة يمين ؟
اختلف الفقهاء في ذلك اختلافا كثيرا ، وقد حكى القاضي عياض في المسألة أربعة عشر مذهبا، ونقلها النووي رحمه الله في شرح مسلم .
ولعل أرجح الأقوال : أنه إن نوى الطلاق أو الظهار أو اليمين ، فالأمر على ما نواه ، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله ، وهو رواية عن أحمد .
وإن لم ينو شيئا لزمه كفارة يمين ، وهذا ما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي .
ويدل على وجوب الكفارة ما ثبت في الصحيحين عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا وَقَالَ : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) البخاري (4911) ومسلم (1473).
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم :
" وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام . فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ أَنَّهُ إِنْ نَوَى طَلَاقهَا كَانَ طَلَاقًا ، وَإِنْ نَوَى الظِّهَار كَانَ ظِهَارًا ، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيم عَيْنهَا بِغَيْرِ طَلَاق وَلَا ظِهَار لَزِمَهُ بِنَفْسِ اللَّفْظ كَفَّارَة يَمِين ، وَلَا يَكُون ذَلِكَ يَمِينًا .
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ : أَصَحّهمَا : يَلْزَمهُ كَفَّارَة يَمِين ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَغْو لَا شَيْء فِيهِ ، وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْء مِنْ الْأَحْكَام ، هَذَا مَذْهَبنَا .
وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض فِي الْمَسْأَلَة أَرْبَعَة عَشَر مَذْهَبًا :
أَحَدهَا : الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ يَقَع بِهِ ثَلَاث طَلْقَات سَوَاء كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَمْ لَا ، لَكِنْ لَوْ نَوَى أَقَلّ مِنْ الثَّلَاث قُبِلَ فِي غَيْر الْمَدْخُول بِهَا خَاصَّة ، قَالَ : وَبِهَذَا الْمَذْهَب قَالَ أَيْضًا عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَزَيْد وَالْحَسَن وَالْحَكَم ...إلخ" انتهى .
فمذهب المالكية إذاً : أنه يقع بهذا التحريم ثلاث طلقات ، فتقع البينونة الكبرى ، والظاهر أن القاضي حكم بناء على هذا المذهب ، واعتبر قولك لزوجتك : تحرم العيشة معك ، من قبيل التحريم الذي اختلف فيه الفقهاء .
وقد نص المالكية على أن من حرّم العيش أو العيشة ونوى الزوجة في ذلك ، أنها تطلق ثلاثا.
انظر : "حاشية الدسوقي" (2/382) ، و "فتح العلي المالك" (2/34).
وقد قدمنا ما يظهر رجحانه من أقوال الفقهاء في المسألة ، وبقي أن نشير إلى مسألة النية ، والفرق بين نية اليمين ونية الطلاق ونية الظهار ، وفي ذلك يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " إن قال قائل : ما هو الفرق بين هذه الأمور الثلاثة ؟ قلنا : الفرق بينهما :
الحال الأولى : في اليمين هو ما نوى التحريم ، لكن نوى الامتناع إما معلقا وإما منجزا ، مثل أن يقول : إن فعلت كذا فأنت عليّ حرام ، هذا معلق . فهنا ليس قصده أنه يحرم زوجته ، بل قصده أن تمتنع زوجته من ذلك .
وكذلك : أنت علي حرام ، قصده أن يمتنع من زوجته ، فنقول : هذا يمين ؛ لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ...) إلى أن قال : ( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ) وقوله : ( مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) "ما" اسم موصول يفيد العموم ، فهو شامل للزوجة وللأمة وللطعام والشراب واللباس ، فحكم هذا حكم اليمين . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قال لزوجته : أنت علي حرام فهي يمين يكفرها . والاستدلال على ذلك بالآية ظاهر .
والحالة الثانية : أنه يريد به الطلاق ، فينوي بقوله : أنت علي حرام ، يعني : إنني مفارقك ، وما يريد أن تبقى معه ، يريد أن يفارقها بهذا اللفظ . فهذا طلاق ، لأنه صالح للفراق ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى).
الحالة الثالثة : أن يريد به الظهار ، ومعنى الظهار : أن يريد أنها محرمة عليه ، فهذا قال بعض أهل العلم : إنه لا يكون ظهارا ، لأنه لم يوجد فيه لفظ الظهار . وقال بعض العلماء : إنه يكون ظهارا ؛ لأن معنى قول المظاهر لزوجته : أنت علي كظهر أمي ، ليس معناه إلا أنت حرام ، لكنه شبهها بأعلى درجات التحريم وهو ظهر أمه ، لأنه أشد ما يكون حراما عليه ، فهذا يكون ظهارا" انتهى من "الشرح الممتع" (5/476).
وإنما ذكرنا حالات النية ، لأن بعض الناس يقول : ما قصدت الطلاق ، والواقع أنه قصد مفارقة زوجته ، وألا تبقى معه ، وهذا قصدُ الطلاق .
هذا ما أمكن ذكره من الناحية الفقهية ، ثم للقضاء كلمته المبنية على الإحاطة بحال السائل ، ولفظه ، والقرائن المحيطة به ، وفي مثل هذه المسائل التي اختلف العلماء في حكمها ، وليس فيها نص من السنة النبوية يقطع النزاع ، يكون الحكم النهائي فيها للقاضي ، ولهذا قال العلماء: "حكم القاضي يقطع النزاع" .
فيلزمك العمل بما حكم به القاضي ، ولا يجوز لك مخالفته .
فإن كان لك اعتراض على حكم القاضي فلعلك تراجع المحكمة ، وتلتمس منها النظر في موضوعك .
والله أعلم .
تعليق