الحمد لله.
اختلف أهل العلم في نقض الوضوء بمس المرأة على ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أن لمس المرأة ينقض الوضوء بكل حال، سواء كان اللمس بشهوة أم لا، وسواء قصد ذلك أم حصل سهواً أو اتفاقاً. وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله. واستدل بقوله تعالى: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء النساء/43.
والأصل في معنى اللمس أنه اللمس باليد.
وقد جاء في الأحاديث استعمال اللمس بمعنى لمس اليد، كما في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لماعز رضي الله عنه: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ لَمَسْتَ رواه أحمد في المسند (2130).
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالْيَدُ زِنَاهَا اللَّمْسُ رواه أحمد (8392) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (8204).
ولكن هذه الأحاديث تدل على أن المس أو اللمس يطلق ويراد به ما دون الجماع، وهذا لا نزاع فيه، وإنما النزاع هل الملامسة في الآية يراد بها الجماع أو ما دونه ؟ وهذه الأحاديث لا تدل على شيء من هذا.
وهذا القول هو أضعف الأقوال في هذه المسألة، قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في الاختيارات (ص18): ” إذا مس المرأة لغير شهوة فهذا مما علم بالضرورة أن الشارع لم يوجب منه وضوءاً ولا يستحب الوضوء منه.” انتهى
- القول الثاني: أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً سواء كان بشهوة أم بغير شهوة. وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
وقد دل على هذا القول عدة أدلة:
- أن الأصل بقاء الطهارة وعدم نقضها حتى يأتي دليل صحيح يدل على أن هذا الشيء ناقض للوضوء، ولا يوجد هذا الدليل هنا، وأما الآية فسيأتي أن المراد بها الجماع، وليس مطلق الملامسة.
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا) رواه البخاري (382) وفي رواية للنسائي (166) بإسناد صحيح: (حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ مَسَّنِي بِرِجْلِهِ) صححه الألباني في سنن النسائي.
- وعنها رضي الله عنها قالت: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ رواه مسلم (486)، وفي رواية للبيهقي بإسناد صحيح: (فَجَعَلْتُ أَطْلُبُهُ بِيَدِي فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ سَاجِدٌ..) وهي عند النسائي أيضاً (169).
وظاهر هذه الأحاديث بلا شك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مس عائشة رضي الله عنها وهو يصلي، ولو كان مس المرأة ناقضاً للوضوء لبطل الوضوء والصلاة.
وأجاب الشافعية عن هذه الأحاديث جواباً ضعيفاً، فقالوا: لعله كان من فوق حائل !!
قال الشوكاني: وهذا التأويل فيه تكلُّف ومخالفة للظاهر.
4. وعنها رضي الله عنها (أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) رواه أبو داود (179) وصححه ابن جرير وابن عبد البر والزيلعي، والألباني في صحيح أبي داود.
وضعفه كثيرون منهم سفيان الثوري ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل والدارقطني والبيهقي والنووي.
فإن صح هذا الحديث فهو ظاهر جداً في الدلالة على هذا القول، وإن لم يصح فإنه يغني عنه الأحاديث الصحيحة السابقة، مع التمسك بالأصل وهو صحة الطهارة، وعدم الدليل على نقض الوضوء بمس المرأة.
- القول الثالث: التفصيل: إن كان المسّ بشهوة نَقض، وإن كان بغير شهوة لم ينقض. وهذا مذهب المالكية والحنابلة. وهؤلاء حاولوا الجمع بين النصوص، الآية: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء وهي دالة على نقض الوضوء بمس المرأة عندهم، والأحاديث التي استدل بها من رأى عدم النقض.
وهذا المسلك صحيح لو كانت الآية دالة على نقض الوضوء بمطلق المس – كما ذهبوا إليه – ولكن الصحيح في معنى الآية: أن المراد بها الجماع، كذا فسرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واختاره ابن جرير، وتفسيره رضي الله عنه مقدم على تفسيره غيره، لدعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له: اللهم فقّهه في الدين وعلمّه التأويل رواه أحمد وأصله في البخاري، وصححه الألباني في تحقيق الطحاوية. وانظر: “محاسن التأويل” للقاسمي (5/172).
وقد ورد في القرآن الكريم التعبير عن الجماع بالمس في غير ما آية:
- قال تعالى: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً البقرة/236.
- وقال تعالى: وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ البقرة/237.
- وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا الأحزاب/49.
ثم الآية عند التأمل تدل على هذا القول (أن المراد بالملامسة فيها الجماع)، وبيان ذلك:
” أن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ المائدة/6، فهذه طهارة بالماء أصليّة صغرى. ثم قال: وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فقوله: فَتَيَمَّمُواْ هذا البدل، وقوله: أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ هذا بيان سبب الصغرى، قوله: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء هذا بيان سبب الكبرى.
ولو حملناه على المس الذي هو الجسُّ باليد، كانت الآية الكريمة ذكر الله فيها سببين للطهارة الصغرى، وسكت الله عن سبب الطهارة الكبرى، مع أنه قال: وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وهذا خلاف البلاغة القرآنية.
وعليه، فتكون الآية دالة على أن المراد بقوله: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء أي: ” جامعتم ” ليكون الله تعالى ذكر السببين الموجبين للطهارة ” انتهى من الشرح الممتع ” (1/240) وانظر: “بدائع الصنائع” (1/132) “الفقه المالكي” (1/89) “المجموع” (2/21).
وأرجح هذه الأقوال هو القول الثاني، أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً سواء كان بشهوة أم بدون شهوة. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (12/222) واختاره من المعاصرين الشيخ ابن باز (10/134) والشيخ ابن عثيمين (1/286) وعلماء اللجنة الدائمة (5/266).
وينظر لمزيد الفائدة هذه الأجوبة:(14321، 21242، 8531).
والله أعلم.
تعليق