الحمد لله.
البيتان معناهما صحيح ، ولا محذور فيهما ، وقد تضمنا ثلاثة أمور :
الأول : أن العالم حادث مخلوق بعد العدم ، وهذا حق لا ريب فيه ، فكل ما سوى الله مخلوق ، كائن بعد أن لم يكن ، كما قال سبحانه : ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) الزمر/62
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وأما كون المخلوق لا وجود له إلا من الخالق سبحانه فهذا حق ، ثم جميع الكائنات هو خالقها وربها ومليكها ، لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته وخلقه ، هو خالق كل شيء سبحانه وتعالى " مجموع الفتاوى (2/27) .
وقال أيضا : " فصار ما علمته العقلاء من أصناف الأمم من الفلاسفة وغيرهم ، بصريح المعقول ، هو عاضد وناصر لما جاء به الرسول ، على من ابتدع في ملته ما يخالف أقواله ، وكان ما علم بالشرع مع صريح العقل أيضا رادا لما يقوله الفلاسفة الدهرية من قدم شيء من العالم مع الله ؛ بل القول بقدم العالم قول اتفق جماهير العقلاء على بطلانه، فليس أهل الملة وحدهم تبطله ، بل أهل الملل كلهم ، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين : مشركي العرب ومشركي الهند وغيرهم من الأمم ، وجماهير أساطين الفلاسفة ، كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن ، بل وعامتهم معترفون بأن الله خالق كل شيء ، والعرب المشركون كلهم كانوا يعترفون بأن الله خالق كل شيء ، وأن هذا العالم كله مخلوق ، والله خالفه وربه " مجموع الفتاوى (5/565) .
الثاني : أن الله تعالى خلق العالم غير محتاج له ، وهذا حق لا ريب فيه أيضا ، فإنه سبحانه هو الغني ، وما سواه فقير محتاج إليه . كما قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) فاطر/15
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في تفسيره (687) :
" يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى اللّه من جميع الوجوه:
فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا.
فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم بها ، لما استعدوا لأي عمل كان .
فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل لهم من الرزق والنعم شيء .
فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره ، وإزالة الكروب والشدائد ، فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم ، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد .
فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية ، وأجناس التدبير.
فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم ، وإخلاص العبادة له تعالى ، فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم.
فقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم، فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا.
فهم فقراء بالذات إليه، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له ، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.
وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي: الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته، وكونها كلها، صفات كمال، ونعوت وجلال.
ومن غناه تعالى، أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، الحميد في ذاته، وأسمائه، لأنها حسنى، وأوصافه، لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه ، الغني في حمده " اهـ
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة : " ذلك بأنه على كل شيء قدير ، وكل شيء إليه فقير ، وكل أمر عليه يسير ، لا يحتاج إلى شيء ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " انتهى .
الثالث : ما أفاده قوله : " ولو أراد تركه لما ابتداه " وهو أن الله تعالى فاعل بالاختيار ، لا موجب بالذات كما تقول الفلاسفة ، فلو شاء لم يخلق العالم ، ولكنه خلقه بمشيئته واختياره ، وهذا حق دلت عليه النصوص ، كقوله تعالى : ( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) البروج/16، وقوله : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) القصص/68
والله أعلم .
تعليق