الاثنين 24 جمادى الأولى 1446 - 25 نوفمبر 2024
العربية

لديه الرغبة في دراسة الشريعة ، ومتخوف من مستقبلها الوظيفي

تاريخ النشر : 13-10-2009

المشاهدات : 108068

السؤال

أنا الآن على مشارف اختبارات الثانوية العامة ، وحقيقة : أني محتار جدّاً في تخصص دراستي الجامعية ، أنا لديَّ الرغبة جدّاً في دراسة العلوم الشرعية ، وأحبها ، وأستمتع بها ، وأطمح أن أكون عالماً ، مفتياً ، خطيباً ، حصولي على شهادة الدكتوراة ، لكني أواجه ردود أفعال كثيرة ، منهم : من يقول إذا تخرجت أين تعمل ؟ مدرس مثلاً ؟ مرتبها قليل ، اذهب إلى كلية الإدارة ، أو الهندسة للحصول على مقعد ممتاز في العمل ، ومِن ثمَّ خذ شهادة الشريعة انتساباً ، مثل عدة مشايخ ... وإلخ من هذا الكلام ، وبعضهم يقول : اذهب إلى الشريعة ، الأمة محتاجة إلى علماء ، ومفتين ، علماً أن أبي مهندس ، وأمي مدرِّسة رياضيات ، واثنين من إخواني مهندسين ، واثنين من أخواني - أيضاً - من كلية الإدارة الصناعية ، ووضعنا المادي ممتاز - ولله الحمد - ، لكن أخاف مستقبلاً إذا تخرجت من الشريعة أكون أقلَّ منهم ماديّاً ، فلذلك أود أن تنصحني ؛ لأنني بين أمرين مهمين في حياتي ، وشكراً .

الجواب

الحمد لله.

نسأل الله تعالى أن يكتب لك النجاح والتوفيق في دراستك ، واختباراتك وأمورك كلها .

أولاً :

لاشك أن أعظم ما صرفت فيه الأوقات , وبذلت فيه الأموال : طلب العلم الشرعي ؛ فإن الله تبارك وتعالى لم يثن في شيء من كتابه كما أثنى على العلم ، وأهله ، قال تعالى :  ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) الزمر/ 9 ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) فاطر/ 28 .

قال ابن كثير رحمه الله :

أي : إنما يخشاه حق خشيته : العلماء العارفون به ؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم ، القدير ، العليم ، الموصوف بصفات الكمال ، المنعوت بالأسماء الحسنى , كلما كانت المعرفة به أتمّ ، والعلم به أكمل : كانت الخشية له أعظم ، وأكثر .

" تفسير ابن كثير " ( 6 / 544 ) .

وعن معاوية رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ ) رواه البخاري ( 71 ) ومسلم ( 1037 ) .

وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ:  كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ أَتَيْتُكَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : فَمَا جَاءَ بِكَ تِجَارَةٌ ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : وَلاَ جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا ، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) رواه الترمذي (2682) وأبو داود (3641) وابن ماجه (223) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح الترغيب " (1/17) .

قال ابن القيم رحمه الله في وصف العلم الشرعي - :

وهو الحاكم ، المفرق بين الشك واليقين , والغي والرشاد , والهدى والضلال , وبه يُعرف الله ، ويُعبد ، ويُذكر ، ويُوحد ، ويُحمد ، ويُمجد , وبه اهتدى إليه السالكون , ومن طريقه وصل إليه الواصلون , ومن بابه دخل عليه القاصدون ، به تُعرف الشرائع والأحكام ، ويتميز الحلال من الحرام , وبه توصل الأرحام , وبه تعرف مراضي الحبيب ، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب ,  وهو إمام ، والعمل مأموم , وهو قائد ، والعمل تابع , وهو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة ، والأنيس في الوحشة , والكاشف عن الشبهة , والغني الذي لا فقر على من ظفر بكنزه , والكنف الذي لا ضيعة على من آوى إلى حرزه ؛ مذاكرته تسبيح , والبحث عنه جهاد , وطلبه قُربة , وبذله صدقة , ومدارسته تعدل بالصيام والقيام , والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام ، قال الإمام أحمد رضي الله عنه : " الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب ؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين , وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه " , وروِّينا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال : " طلب العلم أفضل من صلاة النافلة " .

" مدارج السالكين " ( 2 / 469 ، 470 ) .

فلا ريب أن العلم الشرعي هو أفضل العلوم وأوْلاها , وبه يتحصل الإنسان خير الدنيا والآخرة , وهو مقدَّم على سائر العلوم ، لا سيما إذا خلصت فيه نية الإنسان , وكان له رغبة وهمَّة في تحصيله وطلبه .

وانظر جواب السؤال رقم : ( 10471 ) .

ثانياً:

حثَّ الإسلام على طلب الكفاية في العلوم الدنيوية , وجعل طلبها واجباً كفائيّاً , وخصوصاً إذا احتاجت الأمة لتلك العلوم , كالعلوم العصرية المتقدمة .

فمَن تعلم العلوم الدنيوية ونيته أن يُصلح للمسلمين أمورَهم في معاشهم  , ورفع مكانتهم ، والاكتفاء عن الأمم الكافرة : فلا شك أن أجره عظيم ، ويثاب على هذا العلم الذي يتعلمه , مع بيان أن الجمع بين العلوم الدينية والدنيوية أمر مقدور عليه , ولا يتنافيان , وقد كان كثير من العلماء السابقين يجمعون بين تخصصات مختلفة ، فابن قيم الجوزية رحمه الله كان مبرزاً في العلوم الشرعية ، ولا تخفى مكانته فيه , وكذلك كان مبرزاً في علوم الطب , ولا أدل على ذلك من كتابه " الطب النبوي " – وهو الجزء الرابع من كتابه " زاد المعاد " - ، وهكذا الحال مع علماء آخرين .

وانظر جواب السؤال رقم : ( 2999 ) .

ثالثاً:

يجب أن يُعلم أنه لا بد للمسلم من أن يجرد نيته عن الحظوظ  الدنيوية في طلبه للعلم الشرعي , وأن يكون هدفه الأجر والثواب من الله  , فهذا أدعى لبقاء العلم ، وانتفاع صاحبه به , وقبول الناس له ، ولعلمه , فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ , وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لأَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ ، فَهَانُوا عَلَيْهِمْ ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ) رواه ابن ماجه ( 257 ) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح ابن ماجه " .

وعن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أبو داود ( 3664 ) وابن ماجه ( 252 ) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

عَرفها : يَعْنِي : رِيحَهَا .

وطلب العلم الشرعي لا يتوقف على الدراسة النظامية في الكليات الشرعية ، غير أن الحصول على تلك الشهادة صار مهماً حتى يتمكن طالب العلم من التدريس والإمامة والخطابة ... ونفع الناس .

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - في بيان آداب طلب العلم - :

"الأمر الأول : إخلاص النية لله عز وجل : بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله ، والدار الآخرة ...

وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة ، أو رتبة : فقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) - يعني : ريحها - ، وهذا وعيد شديد .

لكن لو قال طالب العلم : أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظ من الدنيا ، ولكن لأن النظُم أصبح مقياس العالم فيها شهادته ، فنقول : إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة من أجل نفع الخلق تعليماً ، أو إدارة ، أو نحوها : فهذه نية سليمة ، لا تضره شيئاً ؛ لأنها نية حق" انتهى باختصار .

" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " ( 26 / 65 ، 66 ) ، و " كتاب العلم " ( ص 21 ) .

رابعاً :

من المقرر في كتاب الله تعالى , وفي سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم : أن من اتقى الله تعالى : كفاه الله ما أهمه ، وأشغله , قال تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب ) الطلاق/ 2 ، 3 .

وقد تكفل الله تعالى برزق البلاد التي يتقي أهلها ربهم تعالى ، فكيف بآحادهم ، قال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) الأعراف/ 96 ، وقال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) المائدة/ 66 .

فالشاهد : أن أهل الخير والتقوى والصلاح : يكفيهم الله سبحانه وتعالى أمر دنياهم ، فلا تخش - أخي السائل - من المستقبل , وتأكد أن الله سيكفيك أمر دنياك ، وآخرتك ، إن كانت نيتك في طلب العلم لله .

ولو ابتلي المؤمن بنقص في ماله ، أو دنياه : فهو يحتسب ذلك لجنَّة عرضها السموات والأرض ، أعدها الله للمتقين , ولتعلم أن المقياس في السعادة ، والطمأنينة ، والراحة ، ليس في كثرة الأموال ، أو الجاه ، وإنما في طاعة الله تعالى , فخير الأعمال التي يندب الاشتغال لها : تعليم الناس الخير , فمعلِّم الناس الخير يستغفر له مَن في السموات ، ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء , وهم أهل الخشية والتقوى , ولهم المنزلة والجاه العظيم في الدنيا والآخرة .

فالنصيحة لك ما دامت همتك ، ومحبتك ، ورغبتك أن تطلب العلم الشرعي : أن تسعى في تحصيل ذلك , ولا بأس أن تطلب الشهادة مع ذلك , ولكن مع تجريد النية والإخلاص لله تعالى في طلب العلم نفسه , وأن تكون هذه الشهادة عندك وسيلة لنيل العلم ، وتعليم الناس ، والدعوة إلى الله تعالى , ووسيلة للعمل كما تفرضه كثير من القوانين لكثير من الوظائف ، ولا تخف من المستقبل من قلة مال ، أو دنيا ، أو عدم إيجاد وظيفة ؛ فالله سبحانه سيكفيك هموم ذلك كله , فمن صدق الله صدق الله معه .

وبما أن أهلك من المثقفين ، والعقلاء : فيمكنك إقناعهم بدراسة الشريعة بسهولة ، وذلك بإخبارهم

أن هذه رغبتك ، وهم يعلمون أن دراسة ما لا رغبة فيه : فاشلة ، ولا تؤتي ثمارها ، وأن دراسة ما فيه رغبة : فيها النجاح ، والإبداع ، والراحة .

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعطيك ما تتمنى ، وأن يجعلك من أهل العلم ، وطلبته .

وانظر – للأهمية – جواب السؤال رقم : ( 110419 ) .

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب