الحمد لله.
أولاً:
لا شك أن ما تقوله عن واقع سلف هذه الأمة ـ ممن بعد الصحابة ـ ليس صوابا ، وليست حياتهم كالذي فهمته من قراءة بعض السير والتراجم ؛ فالسلف الصالح ليسوا مجموعة علماء عاشوا على الأوقاف والعطايا ! بل إن لهم مساهمة فاعلة في بناء حضارة الإسلام ، وبناء بلدانهم ، وقد برز ذلك في تنوع أعمالهم ، ومهنهم ، فلم يكن العلم الشرعي ليمنعهم من أن يكون أحدهم تاجراً ، أو مزارعاً ، أو نجَّاراً ، أو حدّاداً ، أو قصَّاباً ، وأن يكون طبيباً ، وفلكيّاً ، فقد ساروا على ما سار عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من فهم للدين على وجهه الصحيح ، ثم تطبيق ذلك في واقعهم العملي ، وبما أنك تحب الإمام الليث بن سعد – وهو حري بتلك المحبة – فاجعل منه أنموذجاً على ما نقوله هنا ، فقد كان رحمه الله من التجار ، ولم تمنعه تجارته أن يكون من أعلام المسلمين ، وقل مثل ذلك في الإمام التاجر عبد الله بن المبارك رحمه الله .
ولو أنه قُدِّر لك – أخي السائل – الاطلاع على تراجم الأئمة بدقة وتأمل : لما حصل عندك الخلل في ذلك الفهم لواقع أولئك الأئمة الأعلام ، ففي تراجم أولئك الأئمة كان يُذكر صنعة أحدهم ، أو عمله ، فيُنسب لتلك المهنة ، أو لذلك العمل ، وقد جمع بعض الباحثين ذلك في كتاب مستقل أسماه " الطرفة فيمن نسب من العلماء إلى مهنة أو حرفة " ؛ وفي هذا الكتاب قرابة أربعمائة حرفة ومهنة ، منسوبة إلى قرابة ألف وخمسمائة محدِّث ، وفقيه ، وأديب .
ومن النماذج التي يمكن ذكرها ها هنا لأولئك الأعلام :
1. الآجرِّي ، نسبة إلى عمل الآجر وبيعه ، ومن العلماء المشهورين بتلك النسبة : أبو بكر محمد بن الحسين الآجرِّي ، صاحب كتاب " الشريعة " .
2. الأنماطي ، نسبة إلى بيع الأنماط ، وهي الفرش التي تبسط ، ومن العلماء المشهورين بتلك النسبة : عثمان بن سعيد بن بشار أبو القاسم الأنماطي البغدادي الأحول .
قال ابن قاضي شهبة – رحمه الله - :
أحد أئمة الشافعية في عصره ، أخذ الفقه عن المزني والربيع ، وأخذ عنه أبو العباس ابن سريج ، قال الشيخ أبو إسحاق : كان هو السبب في نشاط الناس لكتب فقه الشافعي وتحفظه .
" طبقات الشافعية "( 1 / 80 ) .
3. البحراني ، نسبة إلى ركوب البحر ، أو قيادة السفن ، ومن العلماء المشهورين بتلك النسبة : محمد بن معمر بن ربعي البحراني القيسي البصري ، وقد روى عنه الأئمة الستة .
4. البربهاري ، نسبة إلى بربهار ، وهي الأدوية التي تُجلب من الهند ، ومن العلماء المشهورين بتلك النسبة : الحسن بن علي بن خلف أبو محمد البربهاري .
قال ابن أبي يعلي – رحمه الله - :
شيخ الطائفة في وقته ، ومتقدمها في الإنكار على أهل البدع ، والمباينة لهم باليد واللسان ، وكان له صيت عند السلطان ، وقدم عند الأصحاب ، وكان أحد الأئمة العارفين ، والحفاظ للأصول المتقين ، والثقات المؤمنين .
" طبقات الحنابلة " ( 2 / 16 ) .
5. الحداد ، والحدَّادي ، نسبة إلى الحدادة ، وهي العمل في الحديد ، ومن العلماء المشهورين بتلك النسبة : محمد بن الحسين .
قال الذهبي – رحمه الله - :
شيخ مرو ، القاضي الكبير ، أبو الفضل ، محمد بن الحسين بن محمد بن مهران المروزي الحدادي .
قال الحاكم : كان شيخ أهل مرو في الحديث والفقه والتصوف والفتيا .
" سير أعلام النبلاء " ( 16 / 470 ) .
ثانياً:
أما الأمر الآخر الذي تذكره في سؤالك : فهو مما يستغرب منه ؛ لأن قراءة سير أعلام النبلاء من الأئمة الأعلام تشحذ الهمم وتقوي العزيمة على العمل ، لا على التثاقل والكسل ! وما تقرؤه من أعمال أولئك ليس مستحيلاً على المرء أن يقتدي به ، بل يمكنه أن يعمل ، وكل بحسبه ، وكل بما يطيقه ، ففي الناس اليوم بقية من السلف الصالح في هممهم واجتهاده ، وفي الناس بالأمس من هو ظالم لنفسه ، أو مقتصد ، كما أن فيهم السابق بالخيرات بإذن الله .
ولك في بعض المعاصرين من أهل العلم والزهد والطاعة قدوة وأسوة ، فها هو الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله – مثلاً – قد ضرب أروع الأمثلة في إمكان أن يكون المسلم منَّا على هدي السلف ومنهاجهم ، من الأئمة الأعلام ، في الطاعة والعبادة ، فلم يُختم التنافس على التقرب من الله تعالى بانتهاء القرون الثلاثة ، نعم لهم فضلهم ، ولهم مكانتهم العالية ، لكن لا يعني هذا أنهم استأثروا بالسبق والدرجات العلى دون الباقين ؛ فالسوق قائمة والجنة قد أزلفت للمتقين ؛ لكن هل من مشمر لها ؟!!
لذا أخي السائل لا ينبغي لك أن يصيبك اليأس من اللحاق بركب من سلف من الأئمة ، ولتجعل من قراءتك لسيرهم دافعاً نحو العمل بجد واجتهاد ، وهذا من أعظم فوائد قراءة التراجم لأولئك العلماء ، والعبَّاد ، والمجاهدين .
قال الشيخ عبد الحي اللكنوني – رحمه الله - في مقدمة كتابه " الفوائد البهية في تراجم الحنفية " ( ص 2 ) - :
وأجلها : فن تراجم الكبار ، وأخبار الأخيار ، ففيه غير ما مضى فوائد جمة ، ومنافع مهمة .
منها : الإطلاع على مناقبهم وأوصافهم ونباهتهم وجلالتهم ؛ ليحصل التأدب بآدابهم والتخلق بأخلاقهم فيحشر في زمرتهم ، ويدخل فيهم وإن لم يكن منهم ... .
ومنها : الاطلاع على آثارهم وحكاياتهم وفيوضهم وتصنيفاتهم ، فيتحرك عرق الشوق إلى الاهتداء بهديهم ، والاقتداء بسيرهم .
انتهى
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد – وفقه الله – في مقدمة كتابه " تراجم لتسعة من الأعلام " – ( ص 1 ) :
فإن الهمم لتخمد ، و إن الرياح لتسكن ، وإن النفوس ليعتريها الملل ، وينتابها الفتور ، وإن سيَر العظماء لمِن أعظم ما يذكي الأوار ، ويبعث الهمم ، ويرتقي بالعقول ، ويوحي بالاقتداء ، وكم من الناس من أقبل على الجِد ، وتداعى إلى العمل ، وانبعث إلى معالي الأمور ، وترقى في مدارج الكمالات بسبب حكاية قرأها ، أو حادثة رويت له .... .
هذا ، وإن من أعظم المقاصد لكتابة تلك التراجم : بيان الجوانب المشرقة - وما أكثرها - من سير عظمائنا ، والتنويه بما لهم من أعمال جليلة ، وأياد بيضاء ، وإيقاظ الهمم وحفزها ، والارتقاء بالأخلاق وتقويم عوجها ، وتزويد القارئ بشيء من خلاصات التجارب ، وقرائح الأفهام .
انتهى
والله أعلم