الحمد لله.
فإذا كان الأمر بالمدينة
ظاهراً معمولاً به ، لم أر لأحد خلافه ؛ للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا
يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها ، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون هذا العمل ببلدنا
وهذا الذي مضى عليه من مضى منا ، لم يكونوا من ذلك على ثقة ، ولم يكن لهم من ذلك
الذي جاز لهم " انتهى من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض (1 /10) .
ثانيا :
مراد الإمام مالك رحمه الله بذلك عمل أهل المدينة الذي يجرى مجرى النقل ، وكذا
عملهم القديم الذي كان زمن الصحابة رضي الله عنهم ثم جرى عمل الناس عليه بعدهم ،
أما عملهم بعد ذلك العهد ، واختلافهم مع الناس فيما يُدرك بالاستنباط والاجتهاد ،
فلا يعتبر عند الإمام مالك حجة لا تجوز مخالفتها ، وإنما غايته أن يكون مرجحا ،
وإنما خالف في ذلك من خالف من متأخري المالكية .
قال القاضي عبد الوهاب بن
علي المالكي رحمه الله : " إجماع أهل المدينة نقلا : حجة تحرم مخالفته ، ومن طريق
الاجتهاد مختلف في كونه حجة ، والصحيح عندنا أنه يرجح به على غيره ، ولا يحرم
الذهاب إلى خلافه " انتهى من "المعونة على مذهب عالم المدينة" (2/607).
وقال الباجي رحمه الله :
" ذلك أن مالكا إنما عول على أقوال أهل المدينة وجعلها حجة ، في ما طريقه النقل ؛
كمسألة الأذان وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ومسألة الصاع ، وترك إخراج
الزكاة من الخضراوات ، وغير ذلك من المسائل التي طريقها النقل ، واتصل العمل بها في
المدينة على وجه لا يخفى مثله ، ونقل نقلا يحج ويقطع العذر " انتهى من "إحكام
الفصول" (1/486) .
وقال أيضا (1/488) :
" ما أدركوه بالاستنباط والاجتهاد ، فهذا لا فرق فيه بين علماء المدينة وعلماء
غيرهم ، في أن المصير منه إلى ما عضده الدليل والترجيح ، ولذلك خالف مالك في مسائل
عدة أقوال أهل المدينة .
هذا مذهب مالك في هذه المسألة ، وبه قال محققو أصحابنا ، كأبي بكر الأبهري وغيره ،
وقال به أبو بكر وابن القصار وأبو تمام ، وهو الصحيح .
وقد ذهب جماعة ممن ينتحل مذهب مالك ممن لم يمعن النظر في هذا الباب إلى أن إجماع
أهل المدينة حجة فيما طريقه الاجتهاد " انتهى .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
" عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى النَّقْلِ حُجَّةٌ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ لِأَبِي يُوسُفَ - لَمَّا
سَأَلَهُ عَنْ الصَّاعِ وَالْمُدِّ ، وَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِإِحْضَارِ
صِيعَانِهِمْ ، وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ إسْنَادَهَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ - : أَتَرَى
هَؤُلَاءِ يَا أَبَا يُوسُفَ يَكْذِبُونَ ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّهِ مَا يَكْذِبُونَ
" .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (20 /306) .
والله أعلم .