الحمد لله.
أولا:
جمهور الفقهاء على أن اللمم هو صغائر الذنوب. كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم :(22422) .
ثانيا:
الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا، ولا وعيد خاص في الآخرة، بلعن أو غضب.
سُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عَنْ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ . هَلْ لَهَا حَدٌّ تُعْرَفُ بِهِ ؟
فأجاب : أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا ، وَهُوَ : أَنَّ الصَّغِيرَةَ مَا دُونُ الْحَدَّيْنِ : حَدُّ الدُّنْيَا وَحَدُّ الْآخِرَةِ .
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا .
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ : كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةِ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ ، فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ .
وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ : وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا ، وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ ؛ أَيْ : " وَعِيدٌ خَاصٌّ " كَالْوَعِيدِ بِالنَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، وَلَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ . وَقِيلَ فِيهِ : مَنْ فَعَلَهُ فَلَيْسَ مِنَّا ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ آثِمٌ ؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ " .
انتهى باختصار من "مجموع الفتاوى" (11/650- 652).
ثالثا:
اختلف أهل العلم في الإصرار على الصغيرة هل يجعلها كبيرة أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، وإليه ذهب الجمهور، كما حكاه النووي وغيره، واختاره ابن تيمية وابن القيم وابن رجب وغيرهم.
القول الثاني: أن الإصرار على الصغيرة لا يجعلها كبيرة، وإليه ذهب بعض أهل العلم، كالشوكاني رحمه الله.
وحجة القول الأول ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: " لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ" رواه البيهقي ، بنحوه ، في "شعب الإيمان" (6882) ، وغيره .
وقد روي مرفوعا، ولا يصح. وينظر: "السلسلة الضعيفة" (4810).
وقال العراقي في تخريج الإحياء: "وَرَوَى أَبُو مَنْصُور الديلمي فِي مُسْند الفردوس عَن أنس قَوْله: لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار، وَإِسْنَاده جيد" انتهى من "المغني عن حمل الأسفار" (ص1353).
وينظر: "تبييض الصحيفة" للشيخ محمد عمرو عبد اللطيف، رحمه الله، الحديث التاسع والأربعون.
ومن حجتهم: أن الإصرار على الصغيرة يدل على الاستهانة وقلة المبالاة، وهذا ينافي تعظيم الله تعالى.
قال النووي رحمه لله "في شرح مسلم" (2/ 86): " قَالَ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه: وَالإِصْرَار عَلَى الصَّغِيرَة يَجْعَلهَا كَبِيرَة.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَر وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: لا كَبِيرَة مَعَ اِسْتِغْفَارٍ، وَلا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار.
مَعْنَاهُ: أَنَّ الْكَبِيرَة تُمْحَى بِالاسْتِغْفَارِ ، وَالصَّغِيرَة تَصِير كَبِيرَة بِالإِصْرَارِ " انتهى.
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وَيُقَال : اللمم أَن يلمم بالذنب الصَّغِير مرّة ، من غير إِصْرَار ؛ لِأَن من أصر على الصَّغِيرَة صَارَت كَبِيرَة ، كَمَا فِي التِّرْمِذِيّ : (لَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار ، وَلَا كَبِيرَة مَعَ اسْتِغْفَار) .
فقد جَاءَ الْكتاب وَالسّنة بتكفير الصَّغَائِر لمن اجْتنب الْكَبَائِر ، وَهَذَا لَا ريب فِيهِ" .
انتهى من "مختصر الفتاوى المصرية" ، ص576
وقال ابن القيم رحمه الله : "الإصرار على الصغيرة : قد يساوي إثمه إثم الكبيرة، أو يُربِي عليها" انتهى من "إغاثة اللهفان" (2/151).
وقال ابن رجب رحمه الله: "فالمحسنُ: هو من لا يأتِي بكبيرة ، إلا نادرًا ، ثم يتوبُ منها .
ومن إذا أتى بصغيرة : كانتْ مغمورةً في حسناتِهِ المكفرةِ لها، ولا بُد أن لا يكونَ مصِرًّا عليها، كما قال تعالى: (وَلَمْ يصِرّوا عَلَى مَا فَعَلوا وَهُمْ يَعْلَمون) .
ورويَ عن ابن عباسِ أنَّه قالَ: لا صغيرةَ مع الإصرار، ولا كبيرةَ مع استغفار .
ورويَ مرفوعًا من وجوهٍ ضعيفة.
وإذا صارتِ الصغائرُ كبائرَ ، بالمداومةِ عليها، فلا بُدَّ للمحسنينَ من اجتنابِ المداومةِ على الصغائر، حتى يكونوا مجتنبينَ لكبائرِ الإثم والفواحشِ" .
انتهى من "جامع العلوم والحكم" (1/ 449).
وحجة القول الثاني: أنه لا دليل على أن الصغيرة تصير كبيرة بالإصرار.
قال الشوكاني رحمه الله: "وقد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية ، فإنه قال: لا صغيرة مع إصرار.
وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ ، وجعله حديثا .
ولا يصح ذلك، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة" انتهى من "إرشاد الفحول" (1/ 146).
والحاصل أن هذه مسألة خلافية بين أهل العلم.
وبكل حال ؛ فالعاقل يحذر من الصغائر واجتماعها، فإنها إذا اجتمعت على المرأ أهلكته، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ، كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْه ) .
رواه أحمد (22302) من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وقال الحافظ : إسناده حسن اهـ.
وروى أحمد (3803) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلا : كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاةٍ ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا ، فَأَجَّجُوا نَارًا ، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا ) . حسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2687).
وروى ابن ماجه (4243) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا عَائِشَةُ ، إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الأَعْمَالِ ، فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّهِ طَالِبًا ) . صححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" .
قال الغزالي رحمه الله : " تواتر الصغائر عظيم التأثير في سواد القلب ، وهو كتواتر قطرات
الماء على الحجر ، فإنه يحدث فيه حفرة لا محالة ، مع لين الماء ، وصلابة الحجر" انتهى .
ولقد أحسن من قال :
لا تحقرنَّ صغيرةً * إنَّ الجبالَ من الحصى
وفقنا الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح.
والله أعلم.