كيف يكون شرط الاستجمار أن يكون وترًا ثلاث أو فوق ثلاث مع إنه في "صحيح البخاري" أن النبي استجمر بحجرين ؟
الحمد لله.
اختلف أهل العلم في الاستجمار بالأحجار ، هل يشترط فيه ألا يكون بأقل من ثلاثة أحجار ، أم إنه متى حصل الإنقاء كفى ذلك ، ولو بحجرين ؟
فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يشترط في الاستجمار أمران : الإنقاء ، وإكمال الثلاثة ، أيهما وُجِد دون صاحبه لم يكف .
وعندهم: أن الحجر الكبير الذي له ثلاث شعب ، يقوم مقام ثلاثة أحجار .
قال ابن قدامة في "المغني" (1/102) : " يُشْتَرَطُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا : الْإِنْقَاءُ ، وَإِكْمَالُ الثَّلَاثَةِ، أَيُّهُمَا وُجِدَ دُونَ صَاحِبِهِ لَمْ يَكْفِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَة" انتهى .
وينظر : "الأم" للشافعي (1/37)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/69).
واستدلوا بعدة أدلة ، منها :
1- ما رواه مسلم (262) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : " نَهَانَا نَبِيُّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ " .
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إذا ذهب أحدُكم إلى الغائطِ، فلْيذهبْ معه بثلاثةِ أحجارٍ يَستطيبُ بهنَّ؛ فإنَّها تُجزئُ عنه أخرجه أبو داود (40)، والنسائي (44) ، وصححه الألباني.
3- ما رواه مسلم (239) عن جابر بن عبد الله قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُوتِرْ .
وذهب الحنفية والمالكية إلى أن الواجب في الاستجمار الإنقاء دون العدد .
ومعنى الإنقاء هو : إزالة عين النجاسة وبِلَّتِها ، بحيث يخرج الحجر بعد المسحة الأخيرة نقيا يابسا .
وأما التثليث فمستحب عندهم .
وينظر : "التجريد" للقدوري (1/160)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/93).
واستدلوا بما في "صحيح البخاري" (156) عن عَبْدَ اللَّهِ أنه كان يَقُولُ : " أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ ، وَالتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيْتُهُ بِهَا ، فَأَخَذَ الحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ " وَقَالَ : هَذَا رِكْسٌ .
قالوا : وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى في الاستجمار بحجرين ، ولم يستجمر بثلاثة أحجار ، فدل ذلك على أنه لا يشترط الاستنجاء بثلاثة أحجار ، بل يكفي الإنقاء ، ولو بأقل من ثلاثة إذا حصل الإنقاء .
وأجيب عن هذا الاستدلال ، بأنه ورد في هذا الحديث ، في غير صحيح البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن مسعود رضي الله عنه أن يأتيه بحجر ثالث بدلا من الروثة .
ففي "مسند أحمد" (7/ 326) عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ ، فَأَمَرَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنْ يَأْتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَجَاءَهُ بِحَجَرَيْنِ وَبِرَوْثَةٍ ، فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ ، وَقَالَ : إِنَّهَا رِكْسٌ ، ائْتِنِي بِحَجَرٍ .
وفي "المعجم الكبير" للطبراني (10/ 61) ، قال : هَذِهِ رِكْسٌ ، ائْتِنِي بِحَجَرٍ .
ولكن في إسناد هذه الزيادة نظر ، إذ هي من رواية أبي إسحاق السبيعي عن علقمة بن قيس النخعي ، وفي سماع أبي إسحاق من علقمة خلاف بين العلماء .
وقد أثبت الحافظ ابن حجر هذه الزيادة، وانتصر للقول باشتراط ثلاثة أحجار في الاستجمار .
فقال رحمه الله : " استدل به الطحاوي على عدم اشتراط الثلاثة ؛ قال : لأنه لو كان مشترطا لطلب ثالثا .
كذا قال ، وغفل رحمه الله عما أخرجه أحمد في مسنده من طريق معمر عن أبي إسحاق عن علقمة عن بن مسعود في هذا الحديث فإن فيه : " فألقى الروثة وقال : ( إنها ركس ، ائتني بحجر ) ، ورجاله ثقات أثبات ، وقد تابع عليه معمر أبو شعبة الواسطي وهو ضعيف ، أخرجه الدارقطني . وتابعهما عمار بن رزيق ؛ أحد الثقات عن أبي إسحاق .
وقد قيل : إن أبا إسحاق لم يسمع من علقمة ، لكن أثبت سماعه لهذا الحديث منه الكرابيسي ، وعلى تقدير أن يكون أرسله عنه ، فالمرسل حجة عند المخالفين ، وعندنا أيضا إذا اعتضد ، واستدلال الطحاوي فيه نظر بعد ذلك ؛ لاحتمال أن يكون اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة، فلم يجدد الأمر بطلب الثالث، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث ؛ لأن المقصود بالثلاثة أن يمسح بها ثلاث مسحات ، وذلك حاصل ولو بواحد . والدليل على صحته أنه لو مسح بطرف واحد ورماه ، ثم جاء شخص آخر فمسح بطرفه الآخر : لأجزأهما ، بلا خلاف..." انتهى من "فتح الباري" (1/ 257).
فهذا هو الجواب عما استدل به القائلون بعدم اشتراط ثلاثة أحجار .
وبناء عليه ؛ فإن الراجح هو القول الأول ، وهو أنه يشترط في الاستجمار الإنقاء وإكمال الثلاثة ، وأن الحجر الكبير الذي له ثلاث شعب يقوم مقام ثلاثة أحجار؛ وذلك لقوة استدلالهم كما في حديث سلمان الفارسي وعائشة رضي الله عنهما ، وأحاديث الأمر بالإيتار في الاستجمار.
وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقال : " وقد تنازع العلماء فيما إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار، أو استجمر بمنهي عنه، كالروث والرمة، وباليمين : هل يجزئه ذلك ؟ والصحيح أنه إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار، فعليه تكميل المأمور به .
وأما إذا استجمر بالعظم واليمين: فإنه يجزئه؛ فإنه قد حصل المقصود [وهو إزالة النجاسة] بذلك، وإن كان عاصيا، والإعادة لا فائدة فيها " انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/ 211).
واختاره أيضا : الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، فقال : " لابد في الاستجمار من ثلاثة أحجار ، وجه ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من عبد الله بن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار ، ثم قال حين رد الروثة : " ائتني بغيرها " ؛ فدل هذا على أنه لابد من ثلاثة أحجار " انتهى من "فتح ذي الجلال والإكرام" (1/ 308).
والله أعلم .