أود أن أسال بخصوص رأي ابن عثيمين رحمه الله تعالى الأخير بالصفرة والكدرة؛ حيث إنه قال : بعدم كونهما من الحيض مطلقا. فسؤالي هو : ما قوله رحمه الله تعالى في حديث بعث النساء للدرجة فيها الكرسف فيها الصفرة لعائشة رضي الله عنها، وأمرها لهن بأن لا يعجلن حتى يرين القصة البيضاء، وهذا يعني أنها رضي الله عنها كانت ترى الصفرة حيضا ، فهل كان رحمه الله تعالى يرى تضعيف هذا الحديث؛ لأنه لا يعتبر الصفرة والكدرة حيضا، أم له أسباب أخرى؟ وهل زيادة ( بعد الطهر ) في حديث كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئا زيادة ضعيفة، فيكون الحديث عاما، وبهذه الحال يجب عدم اعتبار الصفرة والكدرة من الحيض ؟ مع العلم أني آخذ بالقول الذي يعدهما حيضا إذا اتصلا بالحيض، ولكن أريد الاطمئنان، وهل العلماء مجمعون على تحقق الطهر بالجفاف ؟
الحمد لله.
أولا:
الذي استقر عليه رأي الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في هذه المسألة أن الصفرة والكدرة ليستا من الحيض ولو اتصلتا بالدم، قبله وبعده، كما سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم: (179069).
وأما ما كان من ذلك أثناء الحيض وقبل انقطاع الدم، فمعتبر لأنه تبع للحيض.
سئل رحمه الله في "اللقاء الشهري" (73/37) : " فضيلة الشيخ! أرجو توضيح هذا الأمر حيث كثر الكلام فيه، وهو حكم الكدرة والصفرة التي تخرج من المرأة بعد انقطاع الدم، ومتى يكون طهر المرأة وهل لا بد من القصة البيضاء؟
فأجاب : هذه مسألة اختلف فيها العلماء، والذي ترجح عندي أخيراً: أنه لا عبرة بالكدرة ولا بالصفرة، إلا ما كان أثناء الحيض، يعني: مثلاً امرأة عادتها خمسة أيام رأت في اليوم الثالث كدرة أو صفرة، نقول: هي تبع الحيض.
أما امرأة أتتها الكدرة والصفرة قبل أن ينزل الدم: فهذه الكدرة والصفرة لا عبرة بها.
وامرأة أخرى طهرت من الحيض، وانقطع الدم، وبقيت الصفرة والكدرة: أيضاً لا حكم لها " انتهى.
والقول بأن الصفرة والكدرة ليستا من الحيض هو قول ابن حزم رحمه الله، لخلافا لجماهير أهل العلم، من المذاهب الأربعة وغيرهم، في ذلك.
وينظر: "المحلى" مسألة: 266، 269، و"موسوعة الطهارة" للدبيان (6/ 286).
ثانيا:
لم نقف على تضعيف الشيخ رحمه الله لزيادة: "بعد الطهر"، بل احتج بها في مواضع، وصرح بصحتها، وهي صحيحة.
قال رحمه الله: " فما بعد الطهر من كدرة أو صفرة أو نقطة أو رطوبة: فهذا كله ليس بحيض، فلا يمنع من الصلاة، ولا يمنع من الصيام، ولا يمنع من جماع الرجل لزوجته، لأنه ليس بحيض. قالت أم عطية: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً) . أخرجه البخاري وزاد أو داود (بعد الطهر) ، وسنده صحيح" انتهى من "مجموع فتاواه" (11/ 281).
وقال رحمه الله: " قول أم عطية رضي الله عنها: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) . رواه أبو داود بسند صحيح، ورواه أيضاً البخاري بدون قولها : (بعد الطهر) ، لكنه ترجم له بقوله: باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض.
قال في شرحه "فتح الباري": (يشير بذلك إلى الجمع بين حديث عائشة المتقدم في قولها : (حتى ترين القصة البيضاء) ، وبين حديث أم عطية المذكور في الباب، بأن ذلك - أي حديث عائشة - محمول على ما إذا رأت الصفرة والكدرة في أيام الحيض، وأما في غيرها فعلى ما قالت أم عطية) . أهـ. وحديث عائشة الذي أشار إليه هو ما علقه البخاري جازماً به قبل هذا الباب، أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة" (11/ 306).
والشيخ رحمه الله –بعد قوله الأخير- يوجه قول أم عطية: "بعد الطهر" بأن المراد بالطهر: انقطاع الدم. وكان قبل ذلك يرى أن المراد بالطهر هو نزول القصة، أو حصول الجفاف التام.
قال رحمه الله: " دم الحيض إذا انقطع، وخلفه صفرة أو كدرة: فإنه لا عبرة بذلك، أي: لا عبرة بالكدرة والصفرة بعد انقطاع الدم؛ لأن الله تعالى يقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222] . والأذى: هو الدم.
وقالت أم عطية: [كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً] هكذا رواية البخاري.
ولأبي داود: [بعد الطهر شيئاً] ؛ لكن يحصل الطهر إذا انقطع الدم.
وعلى هذا فنقول لهذه المرأة: ما دامت ترى الحيض -أي: الدم- سبعة أيام، ثم يخلفه كدرة أو صفرة؛ فإنها تغتسل عند انقطاع دم الحيض -أي: عند تمام سبعة أيام- ثم تصلي وتصوم، ويأتيها زوجها إن كان لديها زوج، ولو كان عليها صفرة أو كدرة" انتهى من اللقاء الشهري (36/ 22).
ومستند الشيخ أيضا أن الحيض هو الدم، وليس الصفرة والكدرة. "اللقاء الشهري" (51/ 8).
وأما أثر عائشة رضي الله عنها، فيحمله على أن المراد نزول الصفرة قبل انقطاع الدم، كما تقدم في توجيهه لترجمة البخاري لحديث أم عطية.
وعلى كلٍّ؛ فالقول الراجح في هذه المسألة : أن الكدرة والصفرة، في أيام الحيض: حيض، وهو ما يعبر به الفقهاء : في زمن الإمكان. وسواء كان ذلك في أول الحيض متصلا به ، أو في أثنائه، أو في نهايته، إذا انقطع الدم، وبقيت الكدرة والصفرة، فكل ذلك حيض، وهو مذهب جماهير أهل العلم في ذلك، حتى حكي إجماعا.
وينظر جواب السؤال رقم : (298296) .
ثالثا:
الطهر يتحقق بالجفوف في قول عامة الفقهاء، إلا ما نقل عن مالك رحمه الله فيمن ترى القصة البيضاء: أنها لا تطهر بالجفوف.
قال الشيخ أبو عمر الدبيان في "موسوعة الطهارة" (7/ 37):
" المبحث الرابع: علامة الطهر عند الحائض:
فقيل: إذا انقطع الحيض: طهرت مطلقاً، سواء خرجت بعده رطوبة بيضاء أم لا. وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
وقيل: إن كانت ممن يرى القصة البيضاء، فلا تطهر حتى تراها، وإن كانت ممن لا يراها، فطهرها الجفوف. وهو المنصوص عليه في المدونة عن الإِمام مالك رحمه الله.
وقيل: من كان طهرها القصة البيضاء، ورأت الجفوف: فقد طهرت، ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤية القصة البيضاء حتى ترى الجفوف.
وقيل: للطهر علامتان: الجفوف، والقصة البيضاء، فأيهما رأته المرأة كان علامة على طهرها. وسواء كانت المرأة ممن عادتها أن تطهر بالقصة البيضاء، أو بالجفوف. وبه قال ابن حبيب من أصحاب مالك رحمه الله.
وقيل: متى رأت أثر الدم الأحمر، أو كغسالة اللحم، أو الصفرة أو الكدرة، أو البياض، أو الجفوف التام فقد طهرت. وهذا مذهب ابن حزم.
فتبين من هذا أن الأقوال كالآتي:
الأول: أن العبرة بالجفوف مطلقاً.
الثاني: أن القصة البيضاء مقدمة على الجفوف، إن كانت تراها.
الثالث: أن الجفوف مقدم على القصة البيضاء، فيما لو كانت تراهما.
الرابع: أن الجفوف والقصة البيضاء كلاهما علامة على الطهر.
الخامس: متى رأت أثر الدم الأحمر، أو كغسالة اللحم، أو الصفرة أو الكدرة، أو البياض، أو الجفوف التام فقد طهرت".
إلى أن قال:
" دليل من قال إن كانت ترى القصة البيضاء، فلا عبرة بالجفوف.
قال عيسى بن دينار: القصة البيضاء أبلغ في براءة الرحم من الجفوف.
وقال الحافظ: "إن القطنة قد تخرج جافة في أثناء الأمر - يعني في أثناء الحيض - فلا يدل ذلك على انقطاع الحيض، بخلاف القصة البيضاء" انتهى.
ولم يُحْكَ خلافٌ في أن الجفوف علامة للطهر، إلا ما تقدم عن مالك رحمه الله.
والله أعلم.