ما حكم من ترك الصلاة معتقداً عدم بلوغه، ثم علم أنه كان بالغاً وقت تركه الصلاة، فهل يجب عليه القضاء؟
الحمد لله.
من ترك الصلاة معتقدا عدم بلوغه، ثم تبين له أنه قد بلغ، لزمه قضاء الصلاة عند الجمهور.
قال في "كشاف القناع" (1/ 222): "(و) الصلوات (الخمس فرض عين) بالكتاب، لقوله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [النساء: 103] وقوله: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة [البينة: 5].
وبالسنة: لما تقدم، ولحديث ابن عمر: بني الإسلام على خمس متفق عليه. وبالإجماع.
وقال نافع بن الأزرق لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم. ثم قرأ فسبحان الله حين تمسون [الروم: 17] الآيتين.
(على كل مسلم مكلف) قال في المبدع: بغير خلاف.
(ولو لم يبلغه الشرع) ؛ أي: ما شرعه الله من الأحكام، (كمن أسلم في دار حرب، ونحوه): كمن نشأ برأس جبل (ولم يسمع بالصلاة، فيقضيها) إذا دخل دار الإسلام، وتعلّم حكمها ؛ لعموم الأدلة.
وقيل: لا، ذكره القاضي، واختاره الشيخ تقي الدين، بناء على أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، وأجرى الشيخ تقي الدين ذلك في كل من ترك واجبا قبل بلوغ الشرع، مِن تيمم وزكاة ونحوهما." انتهى.
وقال النووي رحمه الله في "المجموع" (3/ 5): " إذا أسلم في دار الحرب ولم يهاجر: وجبت عليه الصلاة، كما لو هاجر، فإن تركها: لزمه القضاء، سواء علم وجوبها أم جهله، وهذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يلزمه ما لم يعلم وجوبها. دليلنا: عموم النصوص. والله أعلم." انتهى.
وإذا كان هذا فيمن جهل الوجوب وهو في دار الحرب، فأولى ألا يعذر من كان في دار الإسلام، ولهذا فالحنفية يعذرون الأول، ولا يعذرون الثاني.
جاء في "الفتاوى الهندية" (1/ 125): "حربي أسلم في دار الحرب ولم يعلم بالشرائع، من الصوم والصلاة ونحوهما، ثم دخل دار الإسلام، أو مات: لم يكن عليه قضاء الصوم والصلاة ؛ قياسا واستحسانا، ولا يعاقب عليه إذا مات. ولو أسلم في دار الإسلام، ولم يعلم بالشرائع: يلزمه القضاء ؛ استحسانا. كذا في فتاوى قاضي خان." انتهى.
فعلى قول الشافعية والحنابلة: كل من كان مكلفا، أي بالغا عاقلا، يلزمه قضاء الصلوات، ولو كان جاهلا بالوجوب، أو ظانا عدم الوجوب.
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "صدر جهلاً مني ترك الصلاة، فهل علي قضاؤها؟
فأجاب: نعم عليك أن تقضي الصلاة، إذا كنت جاهلا في أول شبابك، ثم فهمت؛ عليك أن تقضيها، وتصلي ما تركت جهلًا.
أما إذا كنت متعمدا، قصدك عدم المبالاة بالصلاة: فأنت كافر بهذا، وليس عليك قضاء، إلا التوبة.
أما إذا كان لها أسباب، الجهل، له أسباب: مريض أو شبه ذلك؛ ظننت أنه لا صلاة عليه: فتقضي، إذا بُين لك وعلمت: تقضي ما فاتك، كالمريض الذي ظن أنه لا يصلي حتى يطيب، حتى يستطيع يصلي وهو واقف، هذا يصلي ما ترك إذا شفي، فإن لم يشف يصلي وهو على حاله، قائمًا أو قاعدًا أو على جنبه.
وهكذا بعض الناس إذا ظن أنه إذا ما حصّل الماءَ، ما يصلي حتى يحصل الماء شبهة، هذا يصلي أيضًا يقضي ما فات، لأن تركه له شبهة، ما هو لقصد التعمد والمخالفة.
فالحاصل: أن الإنسان إذا تركها عمداً لتأويل وشبهة: فهذا يقضي، أما إذا تركها عمدًا لقلة المبالاة، وعدم المبالاة بالصلاة، وعدم العناية بها، والزهد فيها وعدم المبالاة: فهذا عليه التوبة إلى الله فقط، فقد كفر، وعليه التوبة، وليس عليه قضاء، في أصح قولي العلماء." انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (7/ 193).
وذهب بعض أهل العلم: إلى أن من ترك الصلاة جهلا بالوجوب: أنه لا قضاء عليه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قال رحمه الله: "وأما من ترك الصلاة جاهلا بوجوبها؛ مثل من أسلم في دار الحرب، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه:
فهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال:
وجهان في مذهب أحمد: أحدهما: عليه الإعادة مطلقا. وهو قول الشافعي، وأحد الوجهين في مذهب أحمد.
والثاني: عليه الإعادة إذا تركها بدار الإسلام، دون دار الحرب. وهو مذهب أبي حنيفة ; لأن دار الحرب دار جهل، يعذر فيه؛ بخلاف دار الإسلام.
والثالث: لا إعادة عليه مطلقا. وهو الوجه الثاني في مذهب أحمد، وغيره...
ومن هذا الباب: المستحاضة إذا مكثت مدة لا تصلي لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها، ففي وجوب القضاء عليها قولان، أحدهما: لا إعادة عليها - كما نقل عن مالك وغيره -؛ لأن المستحاضة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني حضت حيضةً شديدةً كبيرةً منكرةً منعتني الصلاة والصيام): أمرها بما يجب في المستقبل، ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضي.
وقد ثبت عندي بالنقل المتواتر أن في النساء والرجال، بالبوادي وغير البوادي: مَن يبلغ ولا يعلم أن الصلاة عليه واجبة، بل إذا قيل للمرأة: صلِّي، تقول: حتى أكبر وأصير عجوزة! ظانَّة أنه لا يخاطَب بالصلاة إلا المرأة الكبيرة كالعجوز ونحوها. وفي أتباع الشيوخ (أي من الصوفية) طوائف كثيرون لا يعلمون أن الصلاة واجبة عليهم.
فهؤلاء: لا يجب عليهم - في الصحيح - قضاء الصلوات، سواء قيل: كانوا كفَّاراً، أو كانوا معذورين بالجهل." انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/ 101).
وقد سبق بيان أن الأظهر في المسألة: هو ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله، من عذر التارك بجهله، وأنه لا يلزمه قضاء ما فاته، إذا كان جاهلا، أو متأولا.
وإن كان الأحوط، والأبرأ للذمة: هو القضاء، ما دام ذلك ممكنا.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله:
"في اللقاء الشهري الماضي: سئلت عن إنسان صلى الفجر وهو عليه حدث أكبر، فخشي أن تفوته صلاة الجماعة، فتوضأ ثم صلى، فلما سئلت في ذلك قلت: الأولى والأحرى أن يعيد الصلاة، فهل معنى قولك (الأولى والأحرى) أنه لا يلزمه إعادة الصلاة على سبيل الوجوب؟"
فأجاب الشيخ رحمه الله:
"الصحيح أنه إذا فعل ذلك عن جهل فإنه يعذر بذلك، كما عذر النبي صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته ولم يأمره بقضاء ما فات من الصلوات، وكما عذر المرأة التي استحيضت وكانت تترك الصلاة، وكما عذر عمار بن ياسر حينما تمرغ في الصعيد يظن أن هذا هو الواجب عليه في التيمم، والشواهد على هذا كثيرة." انتهى، من "اللقاء الشهري" (54/18) ـ الشاملة.
وينظر جواب السؤال رقم: (107891)، ورقم: (164080)، ورقم: (142657).
والله أعلم.