هل الحديث الآتي"من لم يأخذ من شاربه فليس منا" صحيح ؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فهل هذا يعني أن حفّ الشارب فرض؟ وهناك حديث آخر قال العلماء: إنّ إعفاء اللحية فرض، بالتالي لماذا حفّ الشارب سنّة مع أنّه ذُكِرَ في نفس الحديث؟ أليس كلّ منهما أمر من النبي؟
الحمد لله.
قص الشارب من سنن الفطرة الثابتة.
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:
" الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دالة على أن أخذ الشارب والأظفار من الفطرة، وأنه أمر بقص الشارب وإعفاء اللحية " انتهى من"الأوسط"(1/238).
لكن اختلف أهل العلم في درجة مشروعيته هل هو من السنن المندوبة؟ أم من الواجبات؟
فذهب بعض أهل العلم إلى وجوبه، وهذا الذي يقتضيه ظاهر الحديثين اللذين أشرت إليهما.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى:
" ويحف شاربه أو يقص طرفه... وذكر ابن حزم الإجماع: أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض.
وأطلق أصحابنا وغيرهم الاستحباب، وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: ( خَالِفُوا المُشْرِكِينَ ) متفق عليه، ولمسلم: ( خَالِفُوا الْمَجُوسَ ). وعن زيد بن أرقم مرفوعا: ( مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا ) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم " انتهى من"الفروع"(1 /151–152).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وأما قص الشارب: فالدليل يقتضى وجوبه إذا طال، وهذا الذي يتعين القول به؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا) " انتهى من"تحفة المودود"(ص257).
وقال الشيخ محمد بن علي آدم الاثيوبي رحمه الله تعالى:
" وقد استدل بهذا الحديث، وبحديث ( أَحْفُوا الشَّوَارِبَ ) ونحوهما على وجوب قص الشارب ابن حزم رحمه الله كما في الفتح، وزاد في "المنهل": بعض الحنفية، والجمهور على استحبابه.
ثم قال : الظاهر القول الأول. والله أعلم " انتهى من"ذخيرة العقبى"(1/380).
وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه سنة ، ورأوا أن الحديثين اللذين أشرت إليهما لا ينصان على وجوب الأخذ من الشارب بالقص أو الحف.
فأما حديث زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا رواه الترمذي (2761) وغيره، ونص على صحته عدد من أهل العلم، ومن ذلك قول الترمذي عقب الحديث: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".
فرأوا أن معنى: (فَلَيْسَ مِنَّا)، أي ليس على هدينا وطريقتنا.
قال العراقي رحمه الله تعالى:
" حديث رجل من بني غفار: (من لم يحلق عانته ويقلم أظفاره ويجز شاربه فليس منا) وهذا يدل على وجوب ذلك.
والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن هذا لا يثبت؛ لأن في إسناده ابن لهيعة، والكلام فيه معروف، وإنما يثبت منه الأخذ من الشارب فقط، كما رواه الترمذي وصححه، والنسائي من حديث زيد بن أرقم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا).
والثاني: أن المراد - على تقدير ثبوته - : ليس على سنتنا وطريقتنا، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) فهذا هو المراد قطعا، والله أعلم " انتهى من"طرح التثريب" (2/82).
وأمّا حديث ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ رواه البخاري (5892)، ومسلم(259).
فرأوا أن قولهم بوجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها، لا يلزم منه وجوب قص الشارب وحرمة تركه؛ لأن اقترانهما في الأمر، لا يلزم منه الاستواء في درجة هذا الأمر، كما هو قول جمهور علماء أصول الفقه.
قال الزركشي رحمه الله تعالى:
" (أما القران بين الجملتين لفظا، فلا يقتضي التسوية في غير المذكور حكما، خلافا لأبي يوسف والمزني).
الشرح: القران بين الشيئين " في اللفظ في حكم " لا يقتضي التسوية بينهما في غيره من الأحكام، ولهذا يعطف الواجب على المندوب، كقوله تعالى: ( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده )، وقال أبو يوسف من الحنفية والمزني منا: يقتضي التسوية؛ لأن العطف يقتضي الشركة... " انتهى من"تشنيف المسامع" (2/757).
وقال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" دلالة الاقتران، وقد ضعفها أكثر أهل الأصول...
وصحح الاحتجاج بها بعض العلماء " انتهى من"أضواء البيان"(3/266).
وعلى ذلك؛ فكل جملة لها حكمها الخاص بحسب القرائن والأدلة الأخرى.
فجملة (وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ) قيل: إن المقصود منها مزيد تنظيف وتحسين للوجه، يليق به حكم الندب، كما هو حال السواك والتطيب للجمعة ونحو هذا.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وأغرب القاضي أبو بكر بن العربي فقال: عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة؛ فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين؛ فكيف من جملة المسلمين.
كذا قال في "شرح الموطأ". وتعقبه أبو شامة بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة، لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها، اكتفاء بدواعي الأنفس، فمجرد الندب إليها كاف " انتهى من "فتح الباري"(10 /339–340).
والله أعلم.