الحمد لله.
هذا الخبر قد بيّن ابن القيم مستنده فيه، حيث قال رحمه الله تعالى:
" ففي تفسير أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس؛ وعن مُرَّة، عن ابن مسعود؛ وعن ناسٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما فرَغ الله من خلق ما أحبَّ استوى على العرش، فجعل إبليسَ على مُلك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سُمُّوا الجنَّ؛ لأنهم خُزَّانُ الجنَّة.
وكان إبليسُ مع ملكه خازنًا، فوقع في صدره، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيد لي ــ وفي لفظ: لمزيةٍ لي ــ على الملائكة. فلما وقع ذلك الكبرُ في نفسه اطَّلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ).
قالوا: ربَّنا، وما يكون حال الخليفة؟ قال: تكون له ذريةٌ يُفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضُهم بعضًا. قالوا: ربنا ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) يعني: من شأن إبليس.
فبعث جبريلَ إلى الأرض ليأتيه بطينٍ منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تقبض مني، فرجَعَ، ولم يأخذ، وقال: ربِّ إنها عاذت بك، فأعذتُها. فبعث ميكائيل، فعاذت منه، فأعاذها. فبعث ملَكَ الموت، فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع، ولم أنفِّذ أمره. فأخذ من وجه الأرض، وخَلَط. فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. فصعِد به، فبلَّ الترابَ حتى عاد طينًا لازبًا. واللازب: هو الذي يلزَقُ بعضُه ببعض… ). " انتهى من "الروح" (2/503).
وهذا الخبر رواه الطبري في "التفسير" (1 / 486)، قال: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ، اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ عَلَى مُلْكِ سَمَاءِ الدُّنْيَا … ) فذكر الخبر.
ورواه البيهقي في "الأسماء والصفات" (2 / 210)، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّفَّارُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ اللَّبَّادُ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادِ بْنِ طَلْحَةَ، أَخْبَرَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ … فذكر الخبر.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن ساق الخبر في "تفسيره":
" فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة. والله أعلم " انتهى من "تفسير ابن كثير" (1/230).
فأقوال بعض الصحابة التي تتعلق ببداية الخلق وأخبار الماضين: بعضها مما سمعوه من علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين أسلموا.
وهذا الخبر يحتمل أن يكون منها كما أشار ابن كثير رحمه الله تعالى، والتحديث بأخبار بني إسرائيل لا حرج فيه إن لم يكن لدينا دليل على كذبها.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) البخاري (3461).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"وقال الشافعي من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم" انتهى من "فتح الباري" (6/499).
وهذه الأخبار التي ليس لدينا أدلة على صدقها ولا على كذبها، تذكر للاستئناس بها من غير قطع بصحتها ولا اعتقاد بحجيتها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ... الآيَةَ) رواه البخاري (4485).
وعن ابْنُ أَبِي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ، وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ) رواه أبوداود (3644)، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6/712).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ... ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ )، رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق؛ فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته لما تقدم " انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/366).
والله أعلم.