لماذا نستعيذ من الفقر اتباعا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم و قد علمت من خلال البحث أن أول من يدخل الجنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم فقراء المهاجرين ، فلماذا نستعيذ من الفقر و الأولوية في دخول الجنة للفقراء؟
الحمد لله.
أولاً:
لا شك أن الفقر من جملة البلاء الذي يبتلي الله تعالى به من شاء من عباده، وهو من قدره النافذ فيمن شاء منهم.
ومع ذلك؛ فقد شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتعوذ بالله من فتنته.
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ ) .
رواه البخاري ( 6007 ) ومسلم ( 589 ) .
وعَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ: ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ ) .
فَكُنْتُ أَقُولُهُنَّ، فَقَالَ أَبِي : أَيْ بُنَيَّ، عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا ؟
قُلْتُ : عَنْكَ .
قَالَ : ( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُهُنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ ).
رواه النسائي في "سننه" ( 1347 )، وإسناده حسن ، وصححه ابن حبان في " صحيحه " ( 3 / 303 ) وابن خزيمة في " صحيحه " ( 1 / 367 ) والحاكم في " مستدركه " ( 1 / 383 ) والألباني في " صحيح النسائي " ، وقوَّاه محققو " مسند أحمد " ( 34 / 17 ) وغيرهم.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (95340)
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم – كذلك - : (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى) الترمذي (3489) وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وصححه الألباني. وذلك أن صاحب المال إذا تحرى الحلال في اكتسابه وأحسن في طرق إنفاقه نال من الخير ما لم ينله الكثير من الفقراء.
وقد ثبت أن عددا من العشرة المبشرين بالجنة كانوا أغنياء، كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين.
بل ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان غنياً.
جاء في شرح سنن ابن ماجه: "توفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنِيا مُوسِرًا بأنواع الْفَيْء، وان كَانَ لم يضع درهما على دِرْهَم. وَلَا يُقَال لمن ترك مثله بساتين بِالْمَدِينَةِ وفَدَك وأموالا: إنه مَاتَ فَقِيرا.
وَقد قَالَ : ( ووجدك عائلا فأغنى)" انتهى "شرح سنن ابن ماجه للسيوطي وغيره" (ص273).
ثانيا:
ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، بِأَرْبَعِينَ خَرِيفاً) رواه مسلم (37).
وقد كان نفر من فقراء المهاجرين أصحابَ أموال، تركوها لله بسبب هجرتهم من مكة إلى المدينة، حيث كانوا يعجزون عن نقل أموالهم معهم.
قال ابن رسلان رحمه الله: "فقراء المهاجرين يسبقون إلى الجنة قبل فقراء المسلمين بهذِه المدة؛ لما لهم من فضل الهجرة، وكونهم تركوا أموالهم بمكة، رغبة فيما عند الله - عز وجل –"."شرح سنن أبي داود لابن رسلان" (15/ 127)
وفي الحديث الآخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ؛ نِصْفِ يَوْم) رواه الترمذي (2353) وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وصححه الألباني.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: " هذا الحديث: اختلفت ألفاظ الرواة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فروى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الحديث المتقدم.
وروى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام ). قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
ويُروى أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدخل الفقراءُ الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، نصفِ يوم )، قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي طريق أخرى: ( يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة عام ). وقال: حديث حسن صحيح.
وروي أيضًا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ). قال: هذا حديث حسن صحيح.
فاختلفت هذه الأحاديث في أي الفقراء هم السابقون، وفي مقدار المدة التي بها يسبقون. فهذان موضعان.
ويرتفع الخلاف عن الموضع الأول: بأن يُردَّ مُطلَقُ حديث أبي هريرة، إلى مُقيَّد روايته الأخرى، ورواية جابر رضي الله عنه؛ فيعني بالفقراء: فقراء المسلمين.
وحينئذ يكون حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أبي سعيد: مخصوصا بفقراء المهاجرين.
وحديث أبي هريرة وجابر يعم جميع فقراء قرون المسلمين؛ فيدخل الجنة فقراء كل قرن قبل أغنيائهم بالمقدار المذكور. وهذه طريقة حسنة.
ونزيدها وضوحا، بما قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أصحاب الجَدِّ محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار، يُسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم ). وهذا واضح.
وأما الموضع الثاني؛ فقد تقدَّم أن الخريف هو العام هنا، وأصل الخريف: فصل من فصول السنة، وهو الفصل الذي تخترف فيه الثمار، أي: تُجتنى، فسمي العام بذلك.
ويمكن الجمع بين الأربعين، وحديث الخمسمائة عام؛ بأن سُبَّاق الفقراء يدخلون قبل سُباق الأغنياء بأربعين عاما، وغيرُ سُبَّاق الأغنياء بخمسمائة عام؛ إذ في كل صنف من الفريقين سُباق. والله أعلم."انتهى، من "المفهم" (7/134-135).
وقد ذكر غيرُ واحد من أهل العلم أن المعنى في دخول الفقراء قبل الأغنياء الجنة: هو خِفَّةُ الحساب عليهم؛ فليس عندهم من الأموال التي تقتضي الحساب عليها؛ من أين اكتسبوها، وفيمَ أنفقوها، كما ما عند الأغنياء؛ فلهذا خَفّ حسابُهم، وقصُرت مدته، وسبقوا الأغنياء إلى الجنة.
وهذه فضيلة من وجه واحد، وهو خِفة حساب الأموال، وما يتعلق بها؛ لكن لا يلزم أن يكونوا أفضل من أهل الأموال مطلقا، ومن كل وجه، فلا يلزم أن تكون منزلتهم في الجنة، أعلى من منازل أهل الأموال، بل كلٌّ بحسب عمله، وما لَهُ عند الله؛ وهذا هو الأمر الأهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالفقراء متقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء مؤخرون لأجل الحساب.
ثم إذا حوسب أحدهم، فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير، كانت درجته في الجنة فوقه ، وإن تأخر في الدخول، كما أن السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن، وقد يدخل الجنة - بحسابٍ - من يكون أفضل من أحدهم " انتهى من "مجموع الفتاوى (11/121).
وقال ابن القيم رحمه الله: "الفقراء يتقدمون في دخول الجنة لخفّة الحساب عليهم، والأغنياء يؤخرون لأجل الحساب.
ثم إذا حوسب أحدهم، فإن كانت حسناتُه أعظم من حسنات الفقراء، كانت درجتُه في الجنة فوقَه، وإن تأخر في الدخول" انتهى، من "عدة الصابرين" (1/ 348).
وقيل: إن المعنى في كثرة من يدخل الجنة من الفقراء، أو سَبْقهم: أن من يصبر على فتنة الفقر، أكثرُ ممن يصبر على فتنة الغنى؛ فلذلك: كثُرت المسكنةُ والتواضعُ في الفقراء، وكثُر الفجور والكِبر والخيلاءُ في أصحاب الأموال.
قال الإمام أبو أحمد الكرجي، القصاب، رحمه الله:
" وقد كانت لرسول الله، صلى اللَّه عليه وسلم، أحوال في المال، كثُر عنده في وقت، وقلَّ في غيره، فهل يجوز لأحد أن يقول: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين قلَّ مالُه، كان أفضلَ منه حين كثُر؟ أم يجوز أن يقول: إن درجته في الفضل، حين أفاء الله عليه قُرىً عربيةً، اتضعت؟!
هذا والله عظيم لمن توهمه؛ فكيف لمن قاله؟!
بل المالُ محنة واختبار لأهله؛ فمن أطاع الله فيه، نفعه، ومن عصاه فيه، ضره.
ولا يُقال: الغنى أفضل من الفقر، ولا الفقر أفضل من الغنى.
إلا أن الأغلب أن فتنة المال أكثر من فتنة الفقر.
وللفقر -أيضاً – : فتنة" انتهى، من "النكت الدالة على البيان" (4/113-114).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
"وما يصيب الإنسانَ: إن كان يسره، فهو نِعمة بيِّنة.
وإن كان يسوؤه، فهو نعمة من جهةِ أنه يكفر خطاياه، ويثاب بالصبر عليه. ومن جهةِ أن فيه حكمةً ورحمة لا يعلمها؛ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون . وقد قال في الحديث والله لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له .
وإذا كان هذا وهذا؛ فكلاهما من نعم الله عليه.
وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر.
أما نعمة الضراء: فاحتياجها إلى الصبر ظاهر.
وأما نعمة السراء: فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها؛ فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء. كما قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا. وابتلينا بالسراء فلم نصبر. وفي الحديث أعوذ بك من فتنة الفقر. وشر فتنة الغنى .
والفقر: يصلح عليه خلق كثير. والغنى: لا يصلح عليه إلا أقل منهم. ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين. لأن فتنة الفقر أهون". انتهى، من " مجموع الفتاوى (14/ 304).
ثالثاً:
إذا علمنا أن الفقر: إنما هو "أمر قدري" من عند الله، ولم يثبت في الشرع حث على طلبه، ولا السعي فيه، بل على العكس تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأن الفقراء لم يدخلوا الجنة – أولا – لذات الفقر، بل لأمور عارضة صاحبته؛ فليس في ذلك ما يدل على أن "الفقر" أفضل من "الغنى"، ولا على أن الفقر "يطلبه" العبد، لنفسه، ولا ما يمنع من أن يتعوذ من "فتنة الفقر"؛ كما يتعوذ من "فتنة الغنى".
قَالَ الإمام أَبُو مُحَمَّد ابن حزم، رحمه الله:
" اخْتلف قوم فِي أَي الْأَمريْنِ أفضل الْفقر أم الْغنى؟
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَهَذَا سُؤال فَاسد؛ لِأَن تفاضل الْعَمَل وَالْجَزَاء فِي الْجنَّة إِنَّمَا هُوَ لِلْعَامِلِ، لَا لحالة مَحْمُولَة فِيهِ؛ إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بتفضيل الله عز وجل حَالا على حَال، وَلَيْسَ هَا هُنَا نَص فِي فضل إِحْدَى هَاتين الْحَالَتَيْنِ على الْأُخْرَى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَإِنَّمَا الصَّوَاب أَن يُقَال: أَيّمَا أفضل الْغَنِيّ، أم الْفَقِير؟
وَالْجَوَاب هَا هُنَا: هُوَ مَا قَالَه الله تَعَالَى إِذْ يَقُول هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ.
فَإِن كَانَ الْغَنِيُّ أفضلَ عملا من الْفَقِير، فالغَنيُّ أفضلُ.
وَإِن كَانَ الْفَقِيرُ أفضل عملا من الْغنيِّ، فالفقيرُ أفضل.
وَإِن كَانَ عملهما مُتَسَاوِيا، فهما سَوَاء.
قَالَ عز وجل: فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره.
وَقد استعاذ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من فتْنَة الْفقر، وفتنة الْغنى، وَجعل الله عز وجل الشُّكْر بِإِزَاءِ الْغنى، وَالصَّبْر بِإِزَاءِ الْفقر؛ فَمن اتَّقى الله عز وجل فَهُوَ الْفَاضِل، غَنِيا كَانَ أَو فَقِيرا.
وَقد اعْترض بَعضهم هَا هُنَا بِالْحَدِيثِ الْوَارِد: أَن فُقَرَاء الْمُهَاجِرين يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم بِكَذَا وَكَذَا خَرِيفًا.
وَنزع الْآخرُونَ بقول الله عز وجل: ووجدك ضَالًّا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: والغِنى نعْمَة، إِذا قَامَ بهَا حاملها بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِيهَا.
وَأما فُقَرَاء الْمُهَاجِرين: فهم كَانُوا كُثُرا، وَكَانَ الْغَنِيّ فيهم قَلِيلا.
وَالْأَمر كُله فيهم، وَفِي غَيرهم: رَاجع إِلَى الْعَمَل بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع على أَنه تَعَالَى لَا يَجْزِي بِالْجنَّةِ على فقرٍ لَيْسَ مَعَه عمل خير، وَلَا على غنى لَيْسَ مَعَه عمل خير. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق". انتهى، من الفصل في الملل والأهواء والنحل (5/ 18).
ولأجل ما قررناه في الجواب، فلا إشكال في التعوذ من الفقر، وفتنته، وبلائه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، كما سبق، ويرشد إليه.
وقد ترجم الإمام البخاري، رحمه الله في صحيحه: (بابُ التعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ).
قال البدر العيني في "شرحه": " أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّعَوُّذ من الْفقر، وَالْمرَاد بِهِ الْفقر المدقع لِأَنَّهُ يخَاف حينئذٍ من فتنته". انتهى، من "عمدة القاري، شرح صحيح البخاري" (23/ 10).
وقد سبق في الموقع جواب مفصل عن الفقر وآثاره السيئة ووسائل القضاء عليه في الإسلام، فيحسن الرجوع إليه (95340)
والله أعلم