أنا فتاة، ولدي أب وأم، وأنا أدرس العلم الشرعي عن طريق النت، وأحفظ القرآن، سؤالي: هل علي أن أترك طلب العلم لخدمة والدي، مع العلم والدي بصحة جيدة، لكن يريدون مني أن أبقى جالسة معهم طوال الوقت غير خدمة المنزل، فماذا علي أن أفعل؟
الحمد لله.
من المعلوم من دين الإسلام وجوب بر الوالدين، وغاية برهما تحقيق ما يرضيهما ويسعدهما ويسرهما.
كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ رواه الترمذي (1899) وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (2/340).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" وإذا قيل: فما هو البر الذي أمر الله به ورسوله؟
قيل: قد حَدَّه الله ورسوله بحد معروف، وتفسير يفهمه كل أحد. فالله تعالى أطلق الأمر بالإحسان إليهما. وذكر بعض الأمثلة التي هي أنموذج من الإحسان.
فكل إحسان قولي أو فعلي أو بدني، بحسب أحوال الوالدين والأولاد والوقت والمكان، فإن هذا هو البر.
وفي هذا الحديث: ذكر غاية البر ونهايته التي هي رضى الوالدين؛ فالإحسان موجب وسبب، والرضى أثر ومسبَّب. فكل ما أرضى الوالدين من جميع أنواع المعاملات العرفية، وسلوك كل طريق ووسيلة ترضيهما، فإنه داخل في البر " انتهى من "بهجة قلوب الأبرار" (ص 216).
فإذا كان الوالدان يسعدان ويحصل رضاهما بجلوس الولد معهما، فلا شك أن البر يحصل بمسايرتهما وتحقيق رغبتهما؛ إلا إذا كان هذا الجلوس يعطل الولد عن واجب شرعي، ففي هذه الحال يجلس معهما الولد بما يحصل به إيناسهما وإرضاؤهما ، ثم يستأذنهما بلطف للقيام بمصالحه .
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ رواه البخاري (7257)، ومسلم (1840)، ورواه الإمام أحمد في "المسند" (2/318) بلفظ: لَا طَاعَةَ لِبَشَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ.
وإنما يطيعهما بالجلوس معهما ولو فاته شيء من أمور الخير المستحبة غير الواجبة.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وليس على الرجل أن يستأذن أبويه في أداء فرض قد وجب عليه ، ولا يتطوع إلا بإذنهما " انتهى من "الكافي" (1/357).
والعلم الشرعي قسمان منه الواجب ومنه المستحب.
فالواجب: هو الذي لا يستطيع المسلم بدونه أن يقوم بالواجبات ولا باجتناب المحرمات.
كأن يتفقه في كيفية الطهارة والصلاة والصوم والزكاة إن كان من أهل الزكاة وكيف يبيع ويشتري إن كان تاجرا ونحو هذا.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع، واختلفوا في تلخيص ذلك.
والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه نحو الشهادة باللسان والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له، ولا شبه له، ولا مثل له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، خالق كل شيء وإليه يرجع كل شيء...
وأن الصلوات الخمس فريضة ويلزمه من علمها علم ما لا تتم إلا به من طهارتها وسائر أحكامها، وأن صوم رمضان فرض، ويلزمه علم ما يفسد صومه، وما لا يتم إلا به، وإن كان ذا مال، وقدرة على الحج لزمه فرضا أن يعرف ما تجب فيه الزكاة، ومتى تجب وفي كم تجب ... " انتهى من "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 56 – 58).
وقال القرافي رحمه الله تعالى:
" الغزالي حكى الإجماع في "إحياء علوم الدين"، والشافعي في "رسالته" حكاه أيضا: في أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما عيّنه الله وشرعه في البيع، ومن آجر وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله تعالى في الإجارة، ومن قارض وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في القراض، ومن صلى وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في تلك الصلاة، وكذلك الطهارة، وجميع الأقوال والأعمال " انتهى من "الفروق" (2 /275).
وبناء على هذا:
لا يجوز أن تطيلي الجلوس مع والديك إن كان ذلك سيشغلك عن العلم الواجب ، وعليك في هذه الحالة أن تجمعي بين الأمرين ، ولا تغضبي والديك .
وطالعي للفائدة جواب السؤال رقم: (161081).
وأما ما لا يجب عليك كالاستزادة من حفظ القرآن والاستزادة من التفقه في الدين، فالنصيحة لك أن تجتهدي في هذا ، لكن من غير أن تغضبي والديك، ويكون ذلك بالتلطف معهما، ومداراتهما قدر الطاقة ؛ فتحتالين للجمع بين إرضاء الوالدين وبين الاستزادة من العلم بقدر الطاقة والجهد، وجهاد النفس في الأمرين يرجى أن يقودك إلى خير كبير.
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ العنكبوت/69.
سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" أب يمنع ابنه من حضور مجالس الذكر والدروس العلمية، ونتج عن ذلك أن هذا الولد ترك الالتزام، واتجه للأفلام وما شابهه من المحرمات، هل يعتبر فعل هذا الوالد من الصد عن سبيل الله؟ وهل يطاع في هذه الحالة؟
فأجاب:
إذا نهاك أبوك أو أمك عن حضور المجالس: فلا تطعه؛ لأن حضور مجالس الذكر خير، ولا يعود على الوالدين بالضرر.
فلهذا نقول: لا تطعهما، ولكن احرص على أن تداريهما، ومعنى المداراة: ألا تبين أنك تذهب إلى حلق الذكر كأنك تذهب إلى أصحابك أو ما أشبه ذلك.
أما بالنسبة للأب والأم اللذين يمنعان الولد من حضور مجالس الذكر، فإن منعهما من الصد عن ذكر الله، وهما آثمان في ذلك، والذي ينبغي للأب والأم إذا رأيا ولدهما قد أقبل على العلم أن يستبشرا بذلك، وأن يساعداه بكل ما يستطيعان؛ لأن هذا من نعمة الله عليه وعليهما، فمن الذي ينفع من الأولاد إذا مات الإنسان؟ الولد الصالح، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) " انتهى. "لقاء الباب المفتوح" (99 / 10 ترقيم الشاملة).
وقال رحمه الله تعالى:
" وطاعتهما في ترك طاعة الله غير الواجبة أمرها إليه؛ لأن المستحب أمرها إلى الإنسان إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، لكنه إذا أراد أن يفعل ينبغي أن يداريهما فيخفي ما أمكن إخفاؤه من عمله الصالح " انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (83 / 23 ترقيم الشاملة).
وينبغي أن تعلمي أن خدمة الوالدين وإرضاءهما من أفضل الطاعات، وأهم الأسباب لدخول الجنة، وإذا كان الوالدان كبيرين في السن ، فإن العناية ببرهما وإرضائهما تكون أشد ، ولهذا أوصى الله تعالى وصية خاصة بالوالدين إذا بلغا الكبر ، قال تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) .
نسأل الله أن يوفقك لكل خير.
والله أعلم.