الحمد لله.
أولا:
الأصل في المهر أن يكون مالا.
قال الله تعالى:
( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) النساء/24.
فالمال يتناول كل شيء يباح شرعا بيعه وشراؤه، وجرت عادة الناس وعرفهم على تملكه والانتفاع به، من نقود وجواهر وملابس ومراكب ومساكن وأجهزة وآلات وغير ذلك.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" لما أمر الله تعالى بالنكاح بالأموال، لم يجز أن يبذل فيه ما ليس بمال.
وتحقيق المال: ما تتعلق به الأطماع، ويُعْتَدُّ للانتفاع. هذا رسمه في الجملة، وفيه تفصيل " انتهى من "أحكام القرآن" (1/388).
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" المعروف من كلام العرب: أن كل ما تُمُوِّلَ وتُمُلِّكَ: فهو مال...
وهذا أبين من أن يُحتاج فيه إلى استشهاد، فمن حلف بصَدقةِ ماله؛ فذلك على كل نوعٍ من ماله، سواء كان مما تجب فيه الزكاة، أو لم يكن، إلا أن ينوي شيئا بعينه؛ فيكون على ما نوى، ولا معنى لقول من قال: إن ذلك على أموال الزكوات؛ لأن العلم محيط، واللسان شاهد، في أن ما تُمُلِّكَ وتُمُوِّلَ: يسمى مالا " انتهى من "التمهيد" (2 / 9).
ويُلحق بأعيان المال: المنافع المباحة؛ لأنه يمكن تقويمها وأخذ العوض عنها، فتأخذ حكمها.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (39 / 156):
" ذهب المالكية في المشهور والشافعية والحنابلة إلى أنه يجوز أن تكون (المنفعة) صداقا؛ جريا على أصلهم من أن كل ما يجوز أخذ العوض عنه يصح تسميته صداقا؛ فيصح أن يجعل منافع داره أو دابته أو عبده سنة صداقا لزوجته؛ أو يجعل صداقها خدمته لها في زرع أو بناء دار أو خياطة ثوب؛ أو في سفر الحج مثلا " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" قوله: ( وكل ما صح ثمنا أو أجرة: صح مهرا )، يعني كل ما صح عقد البيع عليه، أو عقد الإجارة عليه، صح مهرا، هذا هو الضابط فيما يصح مهرا.
وعلى هذا؛ فيصح بالنقود، أي: الذهب والفضة؛ لأنها تصح ثمنا، ويصح بالأعيان كما لو أصدقها ثيابا، أو أصدقها سيارة، أو أصدقها أرضا، أو أصدقها بيتا.
ويصح بالمنافع، كما لو أصدقها سكنى بيتٍ لا يلزمُه أن يسكنها فيه، لمدة سنة أو سنتين، وكما لو أصدقها خدمة عبده لمدة سنة.
وعلم من قوله: ( كل ما صح ثمنا أو أجرة صح مهرا )، أن ما لا يصح أن يكون ثمنا أو أجرة، لا يصح أن يكون مهرا.
وعلى هذا فلو أصدقها خنزيرا أو خمرا أو نحو ذلك مما يحرم لم يصح، ولو أصدقها سماع أغان، بأن قال لها: أنا آتي بمطرب يغني لك، فهذه منفعه، لكن لا تصح مهرا؛ لأنه لا يصح عقد الأجرة عليها.
فصار عندنا طرد وعكس، الطرد: أن كل ما صح أن يكون ثمنا أو أجرة صح أن يكون صداقا، والعكس: أن كل ما لا يصح أن يكون ثمنا أو أجرة لم يصح أن يكون صداقا " انتهى من "الشرح الممتع" (12 / 256).
ولا حدّ لقليل المال و لا لكثيره في المهر، فكل ما تراضيا عليه من المال، مهما قل أو كثر: صح به المهر، لعدم ورود الشرع بتحديد له.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وأجمع العلماء على أنه لا تحديد في أكثر الصداق؛ لقول الله تعالى: ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا )" انتهى من "التمهيد" (2/194).
وقال ابن المنذر رحمه الله تعالى:
" والذي به أقول: أن الصداق ما يتراضى عليه الزوجان، وقد ذكر الله تعالى الصداق في كتابه، ولو كان لأقل ذلك [حدٌّ] لبيّنه الله في كتابه، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ ).
وليس لأحد أن يحد حداً يفرض به فريضة إلا بحجة، ولا نعلم حجة تثبت صداقاً معلوماً، لا يجوز غيره " انتهى. "الاشراف على مذاهب العلماء" (5 / 35). وينظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/334).
ويجب أن يدفع هذا المال للمرأة، وتكون منفعة المهر لها، لا لغيرها.
قال الله تعالى:
( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) النساء /4.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: النحلة: المهر.
وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: نحلة: فريضة. وقال مقاتل وقتادة وابن جريج: نحلة: أي فريضة. زاد ابن جريج: مسماه. وقال ابن زيد: النحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا تنكحها إلا بشيء واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق.
ومضمون كلامهم: أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما، وأن يكون طيب النفس بذلك، كما يمنح المنيحة، ويعطي النحلة، طيبا بها؛ كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك، فإن طابت هي له به بعد تسميته، أو عن شيء منه: فليأكله حلالا طيبا؛ ولهذا قال تعالى: ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ) " انتهى من "تفسير ابن كثير" (2/213).
ثانيا:
بناء على ما سبق، يقال في الجواب عن سؤالك:
إذا كان قصدك بإطعام اليتامى أن يكون ثواب ذلك لزوجك ، ولم تنتفعي أنت من ذلك بشيء، ولم تأخذي شيئا من المهر سوى ذلك: فهذا لا يجوز ، لأن الزواج في هذه الحالة انعقد بدون مهر.
وإن كان قد سمى لك شيئا من المهر، غير ما ذكرت من إطعام اليتامى، سواء كان مالا، أو ذهبا، أو شيئا آخر، معجلا كان ذلك، أو مؤجلا؛ فالنكاح صحيح، والمهر في حقيقته: هو ما سمي لك في العقد ، ويكون إطعام اليتامى شرطا منك على زوجك، وهو شرط صحيح معتبر، يجب عليه الوفاء به، حتى وإن كانت منفعة هذا الشرط مما يعود على زوحك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ ) رواه البخاري (2721)، ومسلم (1418) .
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (111919).
وإن كان قصدك أنه يطعم عنك ، فتكونين أنت المطعمة لليتامى ، فهذا جائز ، وحقيقة الأمر أن المهر يكون مقدرا بقيمة تلك الوجبات ، واشترطت على زوجك أن يقدمها لليتامى ، وهذا شرط جائز ، لكن ينبغي أن تذكري العدد الذي تطلبين إطعامه من اليتامى، ولا تتركيه معلقا ما بين 100-150؛ فهذا تفاوت كبير بين الإطعامين.
وهذا يشبه ما قاله العلماء فيمن قال لغيره : أعتق عني عبدك وعلي ثمنه ، قالوا : يكون المعتق هو القائل ، وله ثواب العتق ، وعليه ثمنه لصاحب العبد . قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (9/227) : "لا نعلم فيه خلافا" انتهى .
والله أعلم.