ولا شك أن الإمام أبا حنيفة والإمام مالك أفضل العلماء، ولكنني اكتشفت مؤخرًا شيئًا يثير شكوكي، ويجعلني أشعر أنه إذا كان مثل هؤلاء العلماء الكبار يسمحون بمثل هذا الغش، فكيف يمكنني أن أثق في تعاليمهم أو تعاليم أي عالم؟ هل صحيح أنهم قالوا: إنه إذا اشترطت الزوجة في عقد الزواج شيئا حلالا ـ وحتى لو كان ذلك الشيء لا يحرم ما أحل الله أو يحل ما حرم الله ـ فإن الزوج ولو رضي بذلك يفعل فلا يجب عليه الوفاء به، ولا إثم عليه؟ فمثلاً إذا اشترطت الزوجة على الزوج أن يأذن لها في العمل أو الدراسة ووافق زوجها، فرغم أنه وافق بعد العقد، فلا يجب عليه إذنها والوفاء بوعده؟ فهل صحيح من قال هذا؟ فهل يعني ذلك أن العلماء يسمحون للرجل إذا وعد أن يأذن لها قبل العقد فلا يجب عليه الوفاء بالوعد؟ ألا يعني ذلك أن هؤلاء الأئمة يسمحون للرجال بطريقة ما بخداع النساء والكذب عليهن؟ حيث إن الكثير من النساء يرغبن في العمل والدراسة بعد الزواج، ولن يقبلن الزواج من رجل لا يسمح لها بذلك، ولن يوافقن إلا على الزواج من رجل يسمح لها بذلك، ففي هذه الحالة عند هؤلاء العلماء، قبل العقد يجوز للرجل أن يوافق ويقول لها سأأذن لك، ولكن بعد العقد يمكنه أن يغير رأيه ولا يسمح لها، وبذلك يكون قد خدع بالفعل.
الحمد لله.
أولاً:
بداية لابد من إدراك أن ما اختلف فيه الفقهاء في المسائل الفقهية الاجتهادية فإن الترجيح بين أقولاهم يكون بما دل عليه الدليل. مع احترام وجهة النظر الأخرى لما لها من أدلة أو تعليلات محل اعتبار، فالفقهاء لم يختاروا أقوالهم بمجرد الهوى والتشهي، وإنما حسب ما يظهر لهم من أدلة أو تعليلات.
وكون الخطأ قد يحصل من بعضهم فهذا أمر وارد لاختلافهم في فهم النص أو صحته ونحو ذلك.
وقد ألّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً نافعاً ماتعاً عن أسباب اختلاف العلماء، وأعذارهم في هذا الخلاف، يحسن الرجوع إليه، وهو (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).
وفي الموقع إجابات نافعة في بيان هذا الأمر وأسبابه وكيفية التعامل معه يحسن الرجوع إليها: (21420 ).
فإذا تبين العاقل ذلك، علم أنه لا تثريب في مسائل الخلاف الاجتهادية، وإنما فيها المدارسة والمناصحة، وبيان الراجح مع اتساع الصدر للقول والرأي المخالف، واعتقاد أن ما يلزمنا العمل به هو ما كان أسعد بالدليل.
ومن كان ملتزما بمذهب عالم، أو على ذلك أهل بلده، وليس هو من أهل البحث والنظر: فلا تثريب عليه في التزام مذهبه، واتباع عالمه الذي يثق في علمه؛ بل هذا هو فرضه، والواجب على أمثاله.
ولا يليق وصف من نختلف معه في المسائل الفقهية أو القضايا التي يسوغ فيها الاجتهاد بأنهم يجيزون الغش والخداع، فهذا خلاف الهدي والأدب مع العلماء ومع المخالف، فلا زال الخلاف في هذه المسائل وأمثالها، منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم. ولازال الأئمة الكبار يذكرون في كتبهم الأقوال الأخرى في المسألة، ويدللون ويرجحون، وربما ذكروا الأقوال ولم يرجحوا لقوة أدلة الفريقين، وهذا إقرار منهم على أنّ الاختلاف في أمثال هذه المسائل: سائغ.
فعلى طالب العلم أن يقف حيث وقف الأئمة، ويحترم أقوالهم وينزلهم منزلتهم. ويترفع عن مثل هذه الألفاظ لمن يخالفه في الرأي والاجتهاد.
ثانياً:
إذا اشترطت المرأة لنفسها شرطاً لها فيه مصلحة، وقبله الزوج عند العقد: فقد اختلف أهل العلم: في حكم الوفاء به: هل هو واجب، أم يستحب؟
قال الخطابي: "الشروط في النكاح مختلفة:
فمنها: ما يجب الوفاء به اتفاقا، وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث : (أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ: مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوج).
ومنها: ما لا يوفى به اتفاقا، كسؤال طلاق أختها.
ومنها: ما اختُلف فيه، كاشتراط أن لا يتزوج عليها، أو لا يتسرى، أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله" انتهى من "فتح الباري لابن حجر" (9/217).
وقال المظهري، رحمه الله: "أن يَشرُطَ أهلُ الزوجة على الزوج أن لا يُخرجَها من بلدِها إلى بلدٍ آخرَ، ومن بيتِ أقاربها إلى بيتِ أجنبيًّ، أو مِن محلتِها إلى محلته، أو أن لا يَنكحَ عليها زوجةً أخرى، وما أشبه ذلك= فالوفاءُ بهذه الشروطِ وأشباهِها غيرُ واجبٍ عند الشافعي وأبي حنيفة ومالك، وواجبٌ عند ابن مسعود، وبه قال أحمد" انتهى من "المفاتيح في شرح المصابيح" (4/36).
وإذا تأملتِ الشروط المذكورة في السؤال (السماح بالدراسة والعمل): فإن القائلين بأنها غير ملزمة يرون أن اشتراطها مخالف لمقتضى عقد النكاح، لكون المرأة يكون وقتها لزوجها وبيتها، وكونها تلتزم بعمل في دوام خارج المنزل أو دراسة نظامية تغيب فيها عن بيت الزوجية، فإنه يخالف مقتضى العقد.
وفي الحديث (إنهن عوان عندكم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ، وقال عمر بن الخطاب : النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يُرِقُّ كريمته، وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا ، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ – أي : أسيرات- ) ، فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه، سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة" انتهى من "مجموع الفتاوى" (32/ 263).
وقال ابن مفلح الحنبلي: " ويحرم خروج المرأة من بيت زوجها بلا إذنه إلا لضرورة، أو واجب شرعي " انتهى من "الآداب الشرعيَّة" (3/374).
فهذه معانٍ لا بد من تأملها في وجهة نظر القول الذي لا يرى هذه الشروط في النكاح ملزمة يجب الوفاء بها.
ثالثاً:
الذي نرجحه في الموقع: القول بوجوب الوفاء بالشروط التي تشترطها المرأة ولها فيها مصلحة، ولا تخالف المقصود من عقد النكاح.
ومنها: اشتراط المرأة العمل، أو الدراسة، أو أن لا يتزوج عليها.
وهو قول الحنابلة، وبعض المالكية، وطائفة مِن السَّلَف، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ ابن عثيمين، رحمهم الله.
والأدلة تؤيد القول بوجوب الوفاء بالشروط التي لا تخالف الشرع، ولا تخالف مقصود العقد، ومقتضاه. لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)المائدة/1]، وهذا يتضمن العقد وما لحق به من شروط.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ: مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوج) رواه البخاري (2721).
قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "عن عبد الرحمن بن غنم قال: كنت مع عمر حيث تمس ركبتي ركبته، فجاءه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين ، تزوجت هذه وشرطت لها دارها ، وإني أجمع لأمري أو لشأني أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا. فقال : لها شرطها. فقال الرجل: هلك الرجال؛ إذًا لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت!! فقال عمر : (المؤمنون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم) " انتهى من "فتح الباري لابن حجر" (9/ 217).
قال ابن القيم رحمه الله: " أحق الشروط أن يوفى به -أي الشروط في النكاح -وهو مقتضى الشرع والعقل والقياس الصحيح، فإن المرأة لم ترض ببذل بُضعها للزوج إلا على هذا الشرط، ولو لم يجب الوفاء به لم يكن العقد عن تراض، وكان إلزاما لها بما لم تلتزمه، وبما لم يلزمها الله تعالى ورسوله به" انتهى من "إعلام الموقعين" (3/266).
قال ابن قدامة رحمه الله:
" الشروط في النكاح تنقسم أقساما ثلاثة:
أحدها: ما يلزم الوفاء به، وهو ما يعود إليها نفعه وفائدته، مثل أن يشترط لها أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يسافر بها، أو لا يتزوج عليها، ولا يتسرى عليها، فهذا يلزمه الوفاء لها به، فإن لم يفعل، فلها فسخ النكاح. يروى هذا عن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبى وقاص، ومعاوية، وعمرو بن العاص، رضى الله عنهم. وبه قال شريح، وعمر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، وطاوس، والأوزاعي، وإسحاق" انتهى من "المغني" (9/483).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الأصلُ في جميعِ الشروطِ في العقودِ الصِّحَّةُ حتى يقومَ دليلٌ على المنع، والدليلُ على ذلك عمومُ الأدِلَّة الآمرةِ بالوفاءِ بالعَقدِ" انتهى من "الشرح الممتع" (12/163).
وقد سئل رحمه الله: هل للإنسان أن يمنع زوجته من الدراسة؟
فأجاب: " إن كانت قد اشترطت عليه عند العقد أن تكمل الدراسة، فإنه لا يجوز أن يمنعها؛ لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
وأما إذا لم تشترط عليه ذلك فله أن يمنعها". انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (15/58).
قال اللخمي المالكي:
"الشروط في النكاح على أربعة أوجه: جائز، ومكروه، وفاسد، ومختلف فيه.
فالأول: أن تشترط ألا يُضِرَّ بها في نفسها ولا في نفقة، ولا كسوة، ولا عشرة، فكل ذلك جائز وداخل في قوله -عز وجل-: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقوله: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ.
والثاني: أن تشترط أن يسقط ما تقتضيه له حقوق الزوجية: أن لا يخرجها من بلدها، ولا يتزوج عليها، ولا يَتَسَرَّى، ولا يذكر في ذلك عتقًا ولا طلاقًا - فهذا مكروه؛ لأن فيه ضربًا من التحجير عليه، فإن نزل ذلك - جاز النكاح.
اختلف في الوفاء بالشرط؛ فقال مالك: الشرط باطل؛ وله أن يخرجها، ويتزوج ويتسرى عليها. ويستحب أن يفي بذلك من غير شرط.
وقال ابن شهاب: في كتاب محمد: ذلك واجب، وإن لم يكن فيه عهد.
قال: وكان من أدركته من العلماء يقضون بذلك، ويوجبون كل شرط كان عند النكاح لم يحرم، ويقضون به. وهو أحسن؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ أَحَقَّ الشَّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهَا مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ) أخرجه البخاري ومسلم" انتهى من "التبصرة للخمي" (4/ 1868).
ومما سبق تعلمين أن الذي نرجحه في الموقع والذي تدل عليه الأدلة أنه يجب الوفاء بالشروط المذكورة في سؤالك، وأن هذا قول أئمة معتبرين من المتقدمين والمتأخرين منهم فريق من المالكية.
لكن، ومع ذلك: فالقول الآخر: قول معتبر، قال به قائلون من السلف، والأئمة المتبوعين، الذين لهم مقام صدق، وقدر عال عند الأمة.
ويكفي أن هذه المسألة، نفسها: فيها روايتان عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
قال الشيخ الألباني، رحمه الله، بعد تخريجه للأثر السابق عن عمر رضي الله، وفيه: إلزام الزوج بما شرط على نفسه من الشرط ألا يخرجها من دارها=
" قلت: وإسنادهم صحيح على شرط الشيخين ، وقد علقه البخارى فى موضعين من " صحيحه " كما تقدم قبل حديث.
لكن ثبت عن عمر خلافه أيضا من طريق ابن وهب: أخبرنى عمرو بن الحارث عن كثير بن فرقد عن سعيد بن عبيد بن السباق: " أن رجلا تزوج امرأة على عهد عمر بن الخطاب ، رضى الله عنه ، وشرط لها أن لا يخرجها ، فوضع عنه عمر بن الخطاب رضى الله عنه الشرط ، وقال: المرأة مع زوجها ".
أخرجه البيهقى وإسناده صحيح ، وجوده الحافظ فى " الفتح ".
(9/189) ، وقال البيهقى: " هذه الرواية أشبه بالكتاب والسنة ، وقول غيره من الصحابة ، رضى الله عنهم " انتهى، من "إرواء الغليل" (6/304).
وينظر للفائدة جواب السؤال (347477 )
والله أعلم