الحمد لله.
لا حرج في مخاطبة العالم أو الشيخ الكبير بالوالد ، أو بالأب ، على معنى أنه بمنزلتهما في الاحترام والتوقير ، لا أبوة النسب .
وقد روى أبو داود (8) والنسائي (40) وابن ماجه (313) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ ، أُعَلِّمُكُمْ ، ..) وحسنه الألباني في صحيح أبي داود.
وقد جاء في القرآن إطلاق الأب على غير أب الصلب ، كما في قوله تعالى : ( قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) البقرة/133 .
وإسماعيل عليه السلام من أعمامه لا من آبائه .
وفي "فتاوى ابن الصلاح" رحمه الله (1/186) : " هل يجوز أن يطلق في الكتاب العزيز ، والحديث الصحيح على الأب من غير صلب ؟
فأجاب رحمه الله : قال الله تبارك وتعالى: ( قالوا نعبد إلهك وإله آباءك إبراهيم وإسماعيل )، وإسماعيل من أعمامه لا من آبائه .
وقال سبحانه وتعالى : ( ورفع أبويه على العرش ) ، وأمه كان قد تقدم وفاتها، قالوا: والمراد خالته، ففي هذه استعمال الأبوين من غير ولادة حقيقية وهو مجاز صحيح في اللسان العربي.
وإجراء ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم والعالم والشيخ سائغ من حيث اللغة والمعنى ، وأما من حيث الشرع ، فقد قال الله سبحانه وتعالى: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم )، وفي الحديث الثابت عنه صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ).
فذهب لهذا بعض علمائنا إلى أنه لا يقال فيه صلى الله عليه وسلم أنه أب المؤمنين، وإن كان يقال في أزواجه أمهات المؤمنين، وحجته ما ذكرت، فعلى هذا يقال هو مثل الأب أو كالأب أو بمنزلة أبينا، ولا يقال هو أبونا أو والدنا، ومن علمائنا من جوز وأطلق هذا أيضا، وفي ذلك للمحقق مجال بحث يطول ، والأحوط التورع والتحرز عن ذلك .....) انتهىبتصرف.
وقد نص الشافعي رحمه الله على أنه يجوز أن يقال : أبو المؤمنين ، أي في الحرمة . انظر : "الغرر البهية شرح البهجة الوردية" (4/91).
وقال القرطبي رحمه الله : " والصحيح : أنه يجوز أن يقال إنه أب للمؤمنين ، أي في الحرمة ، وقوله تعالى ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) أي في النسب " انتهى.
فلا حرج في إطلاق "الأب" عليه صلى الله عليه وسلم ، ولا يضر كون النصارى يستعملون ذلك ، فإن التشبه بهم إنما يمنع فيما كان من خصائصهم ، أما هذا الإطلاق فمما يشترك فيه الناس من العرب وغيرهم ، بل وقبل وجود النصارى ، كما قال الله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) الحج/78 .
فسماه الله تعالى أبا للمؤمنين .
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (12/91) : " وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة . وقيل : الخطاب لجميع المسلمين ، وإن لم يكن الكل من ولده ، لأن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد " انتهى .
ولا يزال الناس يستعملون هذا في مخاطباتهم ، فيقولون للعالم والمربي وكبير السن : الوالد ، ويقول الواحد من هؤلاء لمن هو أصغر منه : يا بنيّ ، ونحو ذلك .
وروى مسلم في صحيحه (2151) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( يَا بُنَيَّ ) .
وبوب عليه النووي رحمه الله : " باب جواز قوله لغير ابنه : يا بني ، واستحبابه " .
والبنوة هنا كالأبوة ولا فرق ، فلا يراد بها بنوة النسب ، وإنما يراد من ذلك إظهار الشفقة والرحمة ، وهو استعمال سائغ ، ولو استعمله القساوسة مع أتباعهم ، فإن هذا ليس من خصائصهم كما سبق .
وقد سئل الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله : اشتهر في الوقت الحالي إطلاق لقب والد على علماء الدين الإسلامي كبار السن والعلم والمقام، فهل إطلاق هذا اللفظ يجوز؟ مع ملاحظة الآتي : أن النصارى يطلقون لفظ البابا على علمائهم الكبار في العلم والمقام.
لم يرد عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو الصحابة أو التابعين أو السلف إطلاق لفظ الوالد أو الأب على العلماء.
لو كان لأحد أن يلقب بالوالد، لما كان أحد أحق بها من رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي قال ربنا فيه: ( ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) .
فأجاب :
" الحمد لله، لا نعلم أن أحداً من العلماء قد صار لفظ الوالد لقباً له، لكن جرت العادة في بعض المجتمعات أن يعبروا عن كبير السن بالوالد ، سواء كان عالماً أو غير عالم، فيذكر هذا اللفظ في مخاطبته يقال: يا والدي أو يا والد أو في الخبر عنه. فلم يصل الأمر إلى أن يكون فيه شبه من المصطلح النصراني، فالنصارى يجعلون ذلك لقباً لكبير أهل ملتهم، وأما قولك إن الرسول صلى الله عليه وسلم مع علو قدره وفضله وعظيم حقه على أمته ليس أباً استدلالاً بقوله تعالى: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) الأحزاب/40 ، فالأبوة المنفية هي أبوة النسب، وأما الأبوة أبوة المنزلة والاحترام فهي ثابتة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما جاء في بعض القراءات ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أبٌ لهم ) الأحزاب/ 6 ، فهذه الأبوة والأمومة أبوة منزلة واحترام وإكرام ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد ) وهو فوق ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحقه على أمته أعظم من حق الوالدين وجميع الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) البخاري (14)، ومسلم (44) والله أعلم " انتهى .
والحاصل أنه لا حرج في مخاطبة العالم والشيخ الكبير بالوالد ، ولا يعد هذا تشبها بالنصارى .
والله أعلم .
تعليق