الحمد لله.
أولاً:
من الواضح أن الحياة مع تلك الزوجة أضحت مستحيلة الاستمرار ، وسواء صدقت أم كذبت فإن القرائن التي تملكها كافية لتجعلك تطلقها ، وتبحث عن امرأة صالحة مطيعة ، ولا ندري كيف تطيب لك الحياة معها وأنت قد علمت بتلك المكالمات ، والسرقة ، والخروج من البيت دون إذنك ، وكل ذلك قد يحتمله المرء ، لكن أن يأتيك من يزعم أنه زنى بزوجتك ! ويصف لك البيت وغرفة النوم بدقة ! : فهذا ما لا يحتمله المرء ، ولأن يموت أهون عليه من سماع هذا لو كان كذباً ، فكيف وقد اجتمعت ـ مع ذلك ـ قرائن كثيرة على صدقه ؟! .
ثانياً :
جاءت الشرائع السماوية بما يحفظ الأعراض من انتهاكها ، ومن قذفها واتهامها بالباطل ، وقد رتبت الشريعة المطهرة الحد على من قذف امرأة أو رجلاً ، واتهم أحدهما بارتكاب فاحشة الزنا ، وشرع الله تعالى أن يُجلد القاذف ثمانون جلدة ، وأن لا تُقبل شهادته ، وهو من الفاسقين ، إلا أن يشهد أربعة واقعة الزنى ، ويرون الميل في المكحلة .
وقد استثني الزوج من هذا الحكم ، وذلك أن تقوم أيمان أربعة يحلفها أنها زانية مقام الشهود الأربعة ، فإن حلف تلك الأيمان فإنها تستحق الرجم ، ويمكنها أن تدفع الرجم عنها بأربعة أيمان تحلفها أنه من الكاذبين ، وهنا يفرَّق بينهما ، ولا يلتقيان بعدها ، وهذا هو ما يسمى " اللعان " ، ويكون بالشهادة عليها بالزنى ، وبنفي الحمل أن يكون منه، وبنفي الولد الذي تنجبه.
قال ابن قدامة - رحمه الله - :
إذا قذف زوجته المحصنة : وجب عليه الحد , وحُكم بفسقه , وردِّ شهادته , إلا أن يأتي ببيِّنة أو يلاعن , فإن لم يأت بأربعة شهداء , أو امتنع من اللعان : لزمه ذلك كله ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ...
ولنا : قول الله تعالى ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ، وهذا عام في الزوج وغيره , وإنما خص الزوج بأن أقام لعانه مقام الشهادة في نفي الحد والفسق ورد الشهادة عنه .
وأيضا : قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( البيِّنة وإِلاَّ حدٌّ في ظَهْركِ ) ، وقوله لما لاعن هلال بن أمية : " عَذابُ الدنْيا أَهْونُ مِنْ عَذابِ الآخِرَة ) ؛ ولأنه قاذف يلزمه الحد لو أكذب نفسه , فلزمه إذا لم يأت بالبينة المشروعة ، كالأجنبي .
" المغني " ( 9 / 30 ) .
ثالثاً :
زنى الزوجة لا يوجب فسخ النكاح ، ولا يُسقط مهرها ، وقد فرَّقت الشريعة بين ابتداء نكاح الزانية فلم يكن جائزاً ، وبين دوام النكاح فلم يكن محرَّماً عليه إمساكها ، فإن تابت وحسنت توبتها : فخير تقدمه لنفسها ، وإن أصرَّت على زناها : فلا خير فيها ، ويحل له أن يطلقها ، كما يحل له أن يضيق عليها لتفتدي نفسها منه .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) النساء/19 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
الزوج له أن يستوفي حد الفاحشة من البغي ، الظالمة له ، المعتدية عليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق الرجل على امرأته ( وأن لا يوطئن فرشكم من تكرهونه ) فلهذا كان له أن يقذفها ابتداء ، وقذفها إما مباح له ، وإما واجب عليه إذا احتاج إليه لنفي النسب ، ويضطرها بذلك إلى أحد أمرين : إما أن تعترف ، فيقام عليها الحد ، فيكون قد استوفى حقه ، وتطهرت هي أيضاً من الجزاء لها ، والنكال في الآخرة بما حصل ، وإما أن تبوء بغضب الله عليها ، وعقابه في الآخرة الذي هو أعظم من عقاب الدنيا ؛ فإن الزوج مظلوم معها ، والمظلوم له استيفاء حقه إما في الدنيا وإما في الآخرة ، قال الله تعالى ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) بخلاف غير الزوج ، فإنه ليس له حق الافتراش ، فليس له قذفها ، ولا أن يلاعن إذا قذفها ؛ لأنه غير محتاج إلى ذلك مثل الزوج ، ولا هو مظلوم في فراشها ، لكن يحصل بالفاحشة من ظلم غير الزوج ما لا يحتاج إلى اللعان ؛ فإن في الفاحشة إلحاق عار بالأهل ، والعار يحصل بمقدمات الفاحشة .
فإذا لم تكن الفاحشة معلومة بإقرار ، ولا بينة : كان عقوبة ما ظهر منها كافياً في استيفاء الحق ، مثل الخلوة ، والنظر ، ونحو ذلك من الأسباب التي نهى الله عنها ، وهذا من محاسن الشريعة .
" قاعدة في المحبة " ( ص 202 ، 203 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في عدم سقوط المهر - :
ولا يسقط المهر بمجرد زناها ، كما دلَّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم للملاعن لما قال " مالي ، قال : لا ، مال لك ، عندها إن كنت صادقا عليها فهو بما استحللتَ من فرجها ، وإن كنت كاذباً عليها فهو أبعد لك " ؛ لأنها إذا زنت قد تتوب ، لكن زناها يبيح له إعضالها ، حتى تفتدي منه نفسها إن اختارت فراقه أو تتوب .
" مجموع الفتاوى " ( 15 / 320 ) .
وانظر جوابي السؤالين : ( 83613 ) و ( 42532 ) .
رابعاً :
وعليه : فقد علمتَ أنه يجوز لك أن تلاعنها لما عندك من قرائن على وقوعها في الزنا ، وعليك تحمل آثار أيمانك ، وإن أردت السلامة فطلقها من غير ملاعنة.
وإن طلقتَها طلاقاً باتّاً : فليس لها إلا مهرها ، ولا يلزمك نفقتها ، ولا سكناها ، إلا أن تكون حاملاً ، أو يكون معها أولادك ، فتنفق عليهم ، وعلى ما في بطنها ، لا عليها .
قال تعالى : ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) الطلاق/ من الآية 6 .
خامساً:
وأما " متعة الطلاق " - وهو مال أو متاع يُعطى للمطلقة بعد طلاقها - : فقد اختلف أهل العلم في المطلقة التي تستحقه ، فمنهم من ذهب إلى العموم فقال : تعطى المتعة لكل مطلقة وجوباً ، قبل الدخول أو بعده ، سمي المهر أم لم يسمَّ .
وذهب آخرون إلى أنه في المطلقة قبل الدخول ممن لم يسمَّ لها مهر ، وفي قول ثالث : أنها للمطلقة قبل الدخول ، ولو سمي لها مهر .
والأخذ بالقول الأول هو الأحوط ، وقد رجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية ، ومن المعاصرين : الشيخ الشنقيطي ، والشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمهم الله - ، لكن الشيخ العثيمين قيَّد الوجوب فيما لو طالت مدة زواجهما .
وهذه المتعة المفروضة لا ينبغي أن تكون مرهقة للمطلِّق ، بل على قدر وسعه وطاقته ، ولذا لم يأت لها تحديد في الشرع .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - :
والتحقيق أن قدر المتعة لا تحديد فيه شرعاً لقوله تعالى : ( عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ ) البقرة/236 ، فإن توافقا على قدر معين : فالأمر واضح ، وإن اختلفا : فالحاكم يجتهد في تحقيق المناط ، فيعين القدر على ضوء قوله تعالى : ( عَلَى الموسع قَدَرُهُ ) الآية البقرة/236 ، هذا هو الظاهر ، وظاهر قوله : ( ومَتِّعُوهُنَّ ) البقرة/236 وقوله : ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ ) البقرة/241 يقتضي وجوب المتعة في الجملة ، خلافاً لمالك ومن وافقه في عدم وجوب المتعة أصلاً .
" أضواء البيان " ( 1 / 192 ) .
وقد سبق أن زنى المرأة يبيح عضلها والتضييق عليها لتفتدي وتختار الطلاق ، مقابل التنازل عن حقوقها المادية أو بعضها .
والله أعلم
تعليق