الحمد لله.
أولا :
الكوبون الذي يخوّل حامله شراء سلع من مكان محدد ، يعتبر سندا أو صكا بقدر معين من السلع ، ولا يعتبر سندا بالنقود ، وعليه فلا يجري في هذا الكوبون أحكام التعامل بالنقود ، وإنما ينظر إليه باعتبار ما يمثله من سلع .
ثانيا :
بيع هذه الكوبونات التي تمثل سلعاً من الطعام أو الكساء أو غير ذلك ، فيه تفصيل :
إذا كانت الكوبونات مأخوذة بعقد معاوضة ، كأن يشتريها إنسان بثمن ما ممن أخذها من الشركة ، ثم يريد بيعها ، فلا يجوز له بيعها حتى يقبض هو السلع ثم يبيع السلع إن شاء ، لأن بيع الشيء قبل قبضه لا يجوز .
قال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام : ( إذا اشتريت مبيعا فلا تبعه حتى تقبضه ) رواه أحمد (15399) والنسائي ( 613) وصححه الألباني في صحيح الجامع (342) .
وأخرج أبو داود (3499) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه ( نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم ) حسنه الألباني في صحيح أبي داود.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه ) رواه البخاري (2132) ومسلم (1525) ، وزاد : قال ابن عباس : (وأحسب كل شيء مثله) . أي : لا فرق بين الطعام وغيره في ذلك .
أما إذا كانت الكوبونات مأخوذة بغير معاوضة ، كأن تكون هدية من الشركة لموظفيها ، فقد اختلف العلماء في جواز بيعها قبل قبض السلع المستحقة بها .
فروى مسلم (2818) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ : أَحْلَلْتَ بَيْعَ الرِّبَا ! فَقَالَ مَرْوَانُ : مَا فَعَلْتُ . فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَحْلَلْتَ بَيْعَ الصِّكَاكِ ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُسْتَوْفَى . فَخَطَبَ مَرْوَانُ النَّاسَ فَنَهَى عَنْ بَيْعِهَا . قَالَ سُلَيْمَانُ: فَنَظَرْتُ إِلَى حَرَسٍ يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَيْدِي النَّاسِ .
ورواه مالك في الموطأ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ صُكُوكًا خَرَجَتْ لِلنَّاسِ فِي زَمَانِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ مِنْ طَعَامِ الْجَارِ ، فَتَبَايَعَ النَّاسُ تِلْكَ الصُّكُوكَ بَيْنَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفُوهَا ، فَدَخَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ ، فَقَالَا : أَتُحِلُّ بَيْعَ الرِّبَا يَا مَرْوَانُ ! فَقَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ ، وَمَا ذَاكَ ؟ فَقَالَا : هَذِهِ الصُّكُوكُ تَبَايَعَهَا النَّاسُ ثُمَّ بَاعُوهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفُوهَا ، فَبَعَثَ مَرْوَانُ الْحَرَسَ يَتْبَعُونَهَا يَنْزِعُونَهَا مِنْ أَيْدِي النَّاسِ ، وَيَرُدُّونَهَا إِلَى أَهْلِهَا .
(الجار) مكان بساحل البحر الأحمر ، كان يجمع فيه الطعام .
واختلف في المراد بهذا الحديث على قولين :
الأول : أن من أخذ الصكاك له أن يبيعها قبل قبضها ، لأنه لم يأخذها بمعاوضة ، بل عطية من بيت المال ، وأما من اشتراها منه فليس له أن يبيعها إلا بعد قبض الطعام .
والثاني : أن الجميع ممنوعون من بيعها قبل قبضها .
وإلى الأول ذهب المالكية والشافعية ، فأجازوا أن يبيع الإنسان ما ملكه بغير معاوضة ، كالهبة والوصية والميراث ، ولو لم يقبضه .
وإلى الثاني ذهب غيرهم ، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله ، فقد نص على كراهيته وقال : هو شيء مغيب لا يدري أيصل إليه أم لا ؟
انظر : "المنتقى للباجي" (4/284)، "حاشية الدسوقي" (3/151) ، "القواعد لابن رجب" ص (84) ، "المهذب مع المجموع" (9/328).
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم : " الصِّكَاكَ جَمْع صَكّ وَهُوَ الْوَرَقَة الْمَكْتُوبَة بِدَيْنٍ , وَالْمُرَاد هُنَا الْوَرَقَة الَّتِي تَخْرُج مِنْ وَلِيّ الْأَمْر بِالرِّزْقِ لِمُسْتَحِقِّهِ ، بِأَنْ يَكْتُب فِيهَا : لِلْإِنْسَانِ كَذَا وَكَذَا مِنْ طَعَام أَوْ غَيْره ، فَيَبِيع صَاحِبهَا ذَلِكَ لِإِنْسَانٍ قَبْل أَنْ يَقْبِضهُ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ ; وَالْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ جَوَاز بَيْعهَا .
وَالثَّانِي : مَنْعهَا . فَمَنْ مَنَعَهَا أَخَذَ بِظَاهِرِ قَوْل أَبِي هُرَيْرَة وَبِحُجَّتِهِ . وَمَنْ أَجَازَهَا تَأَوَّلَ قَضِيَّة أَبِي هُرَيْرَة عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي مِمَّنْ خَرَجَ لَهُ الصَّكّ بَاعَهُ لِثَالِثٍ , قَبْل أَنْ يَقْبِضهُ الْمُشْتَرِي فَكَانَ النَّهْي عَنْ الْبَيْع الثَّانِي لَا عَنْ الْأَوَّل , لِأَنَّ الَّذِي خَرَجَتْ لَهُ مَالِك لِذَلِكَ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَلَيْسَ هُوَ بِمُشْتَرٍ فَلَا يَمْتَنِع بَيْعه قَبْل الْقَبْض , كَمَا لَا يَمْتَنِع بَيْعه مَا وَرِثَهُ قَبْل قَبْضه . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض بَعْد أَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى نَحْو مَا ذَكَرْته : وَكَانُوا يَتَبَايَعُونَهَا ثُمَّ يَبِيعهَا الْمُشْتَرُونَ قَبْل قَبْضهَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ " انتهى .
وقال الشيرازي في "المهذب" (9/328) : " ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه , كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإجارة والصداق , وما أشبهها من المعاوضات قبل القبض لما روي أن حكيم بن حزام قال : يا رسول الله إني أبيع بيوعا كثيرة فما يحل لي منها مما يحرم ؟ قال : (لا تبع ما لم تقبضه) ولأن ملكه عليه غير مستقر ; لأنه ربما هلك فانفسخ العقد , وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز ... فأما ما ملكه بغير معاوضة كالميراث والوصية أو عاد إليه بفسخ عقد , فإنه يجوز بيعه قبل القبض , لأن ملكه عليه مستقر فجاز التصرف فيه كالمبيع بعد القبض " انتهى .
ومما يرجح القول بالجواز : ما رواه عبد الرزاق في مصنفه ( 131 ) عن الزهري أن ابن عمر وزيد بن ثابت كانا لا يريان بأسا بشرى الرزق إذا أخرجت القطوط , وهي الصكاك , ويقولون : لا تبعه حتى تقبضه .
فهذا يرجح الاحتمال الأول ، وهو أن النهي لا يلحق من أخذ الصك ثم باعه قبل قبضه ، بل النهي متوجه لمن اشترى منه ، فليس له أن يبيعه حتى يقبضه .
ولكن يبقى أمر آخر ، وهو أن الكوبون بالسلع فيه نوع من الجهالة ، من جهة عدم تحديد السلع التي تؤخذ به ، والذي يظهر أنها جهالة مغتفرة ؛ لأن السلع محدودة بقدر معين من المال ، فمآلها إلى العلم .
وخلاصة الجواب : أنه يجوز لمن أخذ الكوبون هديةً من الشركة ، أن يبيعه على غيره بأزيد أو أقل من قيمته ، وأما من اشتراه منه ، أو كان أخذه من الشركة أجرةً على عمله فليس له أن يبيعه على ثالثٍ حتى يقبض السلع .
والله أعلم .
تعليق