الحمد لله.
ينتظم الكلام عن التخصص في الدراسات التي تحتاجها الأمة الإسلامية في مسائل وأحكام ، منها :
1. لا شك أن الأمة الإسلامية تحتاج من أبنائها أن يكونوا قادة العالَم في العلوم النظرية والعملية ، وأن لا يكونوا عالَة على غيرهم من الأمم ، والإسلام دين العلم ، بدأ الله تعالى وحيه لنبيه صلى الله عليه وسلم بكلمة ( اقرأ ) ، وحثَّ على العلم ، ورفع من شأنه ، وأوجب تعلم العلوم التي تحتاجها أمة الإسلام وجوباً كفائيّاً .
2. ونوصي أن يكون أصحاب الاختصاص ممن لهم ميل لهذا العلم ، وذاك التخصص ، فمن المعلوم أن المسلمين يتفاوتون فيما بينهم في الميل نحو علوم دون أخرى ، ومن الأفضل أن نحث كل واحدٍ منهم نحو ما يميل له من العلوم ، لا أن نجبره على تعلم شيء لا يرغبه ، فضلاً عن المنع من إجباره نحو ما يكره .
وهذه المسألة عالجها أئمة الإسلام قديماً وحديثاً ، بل إنهم أوصوا بها أن تنمَّى مع الطفل في صغره ، دون الحاجة للانتظار لأن يكبر حتى يوجه لهذا العلم .
قال ابن القيم - رحمه الله - :
ومما ينبغي أن يعتمد : حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها ، فيعلم أنه مخلوق له : فلا يحمله على غيره ، ما كان مأذوناً فيه شرعاً ؛ فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له : لم يفلح فيه ، وفاته ما هو مهيأ له ، فإذا رآه حسن الفهم ، صحيح الإدراك ، جيِّد الحفظ ، واعياً : فهذه من علامات قبوله ، وتهيؤه للعلم لينقشه في لوح قلبه ما دام خالياً ؛ فإنه يتمكن فيه ، ويستقر ، ويزكو معه .
وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه ، وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب ، والرمي ، واللعب بالرمح ، وأنه لا نفاذ له في العلم ، ولم يُخلق له : مكَّنه من أسباب الفروسية ، والتمرن عليها ؛ فإنه أنفع له ، وللمسلمين .
وإن رآه بخلاف ذلك ، وأنه لم يُخلق لذلك ، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع ، مستعداً لها ، قابلاً لها ، وهي صناعة مباحة نافعة للناس : فليمكِّنه منها .
هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه ؛ فإن ذلك ميسر على كل أحد لتقوم حجة الله على العبد ، فإن له على عباده الحجة البالغة ، كما له عليهم النعمة السابغة .
" تحفة المودود في أحكام المولود " ( ص 243 ، 244 ) .
ومن تأمل في حال الصحابة ، ورأى تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهم : علم مدى مطابقة ما قلناه لواقعهم رضي الله عنهم ، فقد كان منهم العالِم الفقيه ، ومنهم القارئ ، ومنهم المجاهد ، ومنهم الشاعر ، وكلٌّ يؤدي ما يتقنه ، ويساهم في بناء الدولة ، وكما يكون الدفاع عن الإسلام بالمناظرة والحجة : فإنه يكون بالسيف والرمح ، ولكل واحدٍ من هذه الفنون أهلها وأربابها ، وقد اشتركوا جميعاً في معرفة الإسلام ، ولم ينافِ ذلك أن يكون متخصصاً في فن ، أو صنعة .
3. يجب التفريق بين الرجال والنساء في التوجه نحو الاختصاص في العلوم والفنون ، فما يصلح للرجال ليس بالضرورة أن يصلح كله للنساء ، فالعلوم الصناعية الثقيلة ، والسياسية ، والعسكرية لا تليق بالمرأة ، ومما يليق بها وتشترك فيه مع الرجال : العلوم التربوية ، والصناعية الخفيفة ، والعلوم الطبية – وتختص عن الرجل بتوجيهها نحو طب النساء - .
4. ولا يجوز للرجال ولا للنساء مخالفة شرع الله تعالى في دراسة التخصصات ، وتعلمها ، فعليهم تجنب الاختلاط ، والسفر لدول الكفر ، وسفر المرأة وحدها دون محرمها ، ومن المخالفات الشرعية في ذلك : الذهاب لبلاد الكفر للدراسة مع وجود هذا العلم والتخصص في بلاد المسلمين .
وإذا احتاجت الأمة الإسلامية لعلم ضروري فينبغي أن يُحسن اختيار من يقوم به ، لا أن يفتح الباب على مصراعيه للجميع ، فيذهب للبلاد الكافرة الشاب المراهق الأعزب ، والضعيف في علمه الشرعي ؛ لأن هذا أدعى لوقوعه في الفتنة ، ونكون خسرناه وخسرنا ما ذهب من أجله ، ولم نستفد شيئاً .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - :
" إذا اقتضت الضرورة ابتعاث بعض الطلاب إلى الخارج ؛ لعدم وجود بعض المعاهد الفنية المتخصصة لا سيما في مجال التصنيع وأشباهه : فأرى أن يكوَّن لذلك لجنة علمية أمينة لاختيار الشباب الصالح في دينه وأخلاقه ، المتشبع بالثقافة والروح الإسلامية , واختيار مشرف على هذه البعثة ، معروف بعلمه ، وصلاحه ، ونشاطه في الدعوة ليرافق البعثة المذكورة , ويقوم بالدعوة إلى الله هناك , وفي الوقت نفسه يشرف على البعثة , ويتفقد أحوالها ، وتصرفات أفرادها , ويقوم بإرشادهم وتوجيههم , وإجابتهم عما قد يعرض لهم من شبه ، وتشكيك ، وغير ذلك .
وينبغي أن يُعقد لهم دورة قبل ابتعاثهم ، ولو قصيرة ، يدرَّسون فيها جميع المشاكل ، والشبهات ، التي قد تواجههم في البلاد التي يُبتعثون إليها , ويُبين لهم موقف الشريعة الإسلامية منها , والحكمة فيها ، حسب ما دل عليه كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم , وكلام أهل العلم ، مثل أحكام الرق , وتعدد الزوجات بصفة عامة , وتعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة , وحكم الطلاق , وحكمة الجهاد ابتداءً ودفاعاً ، وغير ذلك من الأمور التي يورد ها أعداء الله على شباب المسلمين حتى يكونوا على استعداد تام للرد على ما يعرض لهم من الشبه.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 1 / 386 - 388 ) .
وقال علماء اللجنة الدائمة :
إذا كان الواقع كما ذكر من أن التخصص الذي تدرسه موجود في بلدك الإسلامي ، وأن الدراسة في الخارج مشتملة على مفاسد كثيرة في الدين والأخلاق وعلى الزوجة والأولاد - فإنه لا يجوز لك السفر لهذه الدراسة ؛ لأنها ليست من الضرورات ، مع وجودها في بلدك الإسلامي ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في التحذير من الإقامة في بلاد الكفار من غير مسوغ شرعي ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم : " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين " وغيره من الأحاديث ، وما وقع فيه بعض المسلمين من السفر إلى بلاد الكفار من غير ضرورة هو من التساهل الذي لا يجوز في دين الله ، وهو من إيثار الدنيا على الآخرة ، وقد قال الله جل وعلا : ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) سورة الأعلى ، الآيتان ( 16، 17) ، وقال سبحانه : ( قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) سورة النساء ، الآية : (77) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان همه الآخرة جمع الله شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له .
الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ، الشيخ عبد الله الغديان ، الشيخ صالح الفوزان ، الشيخ بكر أبو زيد .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 26 / 93 - 96 ) .
5. وأخيراً : فإن العلوم كثيرة ، وفي كل علم وفن تخصصات ، فالطب تخصصاته كثيرة ، والعضو الواحد من الجسد يكون فيه تخصصات ، والأمة الإسلامية تحتاج لكل العلوم والفنون المباحة ، من الطب ، والهندسة ، والفيزياء ، والكيمياء ، وعلوم الذرة ، والنووي ، والعلوم العسكرية ، والصناعات الثقيلة ، وغير ذلك من العلوم والفنون ، على أن يكون ذلك بحسن اختيار ، ولمقصد شرعي أو مباح ، مع الالتزام بالشرع أثناء تحصيله ، ومع تحصيل قدرٍ كافٍ من العلوم الشرعية .
ولا نعلم – الآن – كتاباً معيَّناً نحيلك عليه .
ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لما يحب ويرضى ، وأن يكتب لهم العز والتمكين .
والله أعلم
تعليق