الحمد لله.
أولا :
ينبغي أن تحمد الله تعالى وتشكره على نعمة الالتزام ، فهي أجل النعم ، وأن تعلم أن الشكر هو باب المزيد ، كما قال تعالى : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم/7 .
ثانيا :
تأمل فيمن حولك من الناس ، كم فيهم من مريض ، ومبتلى ، وذي حاجة ، لتعلم أن ما تعاني منه لا يعد شيئا بالنسبة لمعاناة كثير من الناس ، فاحمد الله تعالى ، واصبر ولا تجزع .
وفي الحديث : ( انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ) رواه مسلم (2963) .
ولو أنك زرت إحدى المستشفيات ، وتأملت ما يعانيه الناس ؛ لأدركت أنك في خير عظيم ، ونعمة سابغة ، وأنك مقصر في شكر ربك ومولاك ، بل وتخشى من القنوط من رحمته ، عجبا لك ، لو تأملت في بدنك لرأيت مئات النعم تتوالى عليك ، نعمة النظر ، والسمع والنطق ، والمشي ، وسلامة الجوارح ، وأهمها هداية القلب ، ثم تتأذى من حركة لا إرادية تظهر أحيانا ، فكيف لو كنت أخرس أو أعمى أو أعرج أو مقعدا ، فاحمد الله تعالى ، واحذر أن تسلب النعم بكفرانها وجحودها .
قال ابن القيم رحمه الله : " حبس السلطان رجلا فأرسل إليه صاحبه : اشكر الله ، فضُرب ، فأرسل إليه : اشكر الله ، فجيء بمحبوس مجوسي مبطون في قيد ، وجعل حلقة من قيده في رجله وحلقة في الرجل المذكور ، فكان المجوسي يقوم بالليل مرات [أي لقضاء حاجته] ، فيحتاج الرجل أن يقف على رأسه حتى يفرغ ، فكتب إليه صاحبه : اشكر الله ، فقال له : إلى متى تقول : اشكر الله ، وأي بلاء فوق هذا ؟ فقال : ولو وضع الزنار الذي في وسطه في وسطك كما وضع القيد الذي في رجله في رجلك ماذا كنت تصنع ؟! فاشكر الله " انتهى من "عدة الصابرين" ص 123 ، والزنار كان يلبسه الكفار تمييزا لهم عن المسلمين .
والمقصود من هذه القصة : أنه مهما ابتلي المؤمن في بدنه ، فلا تزال نعم الله تعالى عليه لا يستطيع إحصاءها ، وأعظمها نعمة الهداية إلى هذا الدين .
فانظر في حال من هو دونك ، وتأمل ما منحك الله من النعم ، فذلك من أعظم الوسائل التي تعين على الصبر ، بل تجلب الرضى ، وتساعد على الشكر .
ثالثا :
من ابتلي بمصيبة من المصائب فهو بين أمرين : أن يصبر ويحتسب ، فينال الأجر العظيم والثواب الكريم ، كما قال تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) البقرة/155- 157 ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر/10 .
أو أن يجزع ويتسخط ، فينال الإثم والعقاب ، مع بقاء مصيبته ، فلا يفيده الجزع شيئا ، وإذا خُيِّر العاقل بين الأمرين اختار الأول ولا شك ، فإن المصيبة موجودة على كل حال ، فلم لا يكسب الثواب ، ويجني الحسنات ؟ وأي مصلحة في جلب السيئات ، وتعريض النفس للعقاب ، بل أي مصلحة في الجمع بين مصيبة الدنيا وعقاب الآخرة ؟
رابعا :
لا وجه للتخوف من الرقية ، فإنها نافعة في كل حال ، سواء كنت مصابا بعين ونحوها أو لم تكن مصابا ، والحالة التي تشكو منها قد تكون بسبب شيء من ذلك .
وأهم ما نوصيك بك أن تتجاوز هذه المرحلة ، وأن تعرض عن التفكير في هذا الأمر ، وأن لا تلتفت إلى نظر الآخرين ورأيهم ، فإنهم سيرونك مهما حاولت إخفاء عيبك – إن كان هناك عيب – فلا تبال بذلك ، فأنت أفضل من عشرات ممن هم في سنك أو مجتمعك ، وكم من صاحب عيب وعاهة هو محبوب محترم بين الناس ، قد زكّاه إيمانه ، وقدّمه اجتهاده ، وجمّله خلُقه .
وهذا عطاء بن أبي رباح إمام من أئمة التابعين ، قال عنه الذهبي رحمه الله : "الإمام شيخ الإسلام، مفتي الحرم" .
ثم قال في وصفه : " قال ابن سعد: هو مولى لبني فهر أو بني جمح ، انتهت فتوى أهل مكة إليه وإلى مجاهد ، وأكثر ذلك إلى عطاء .
سمعت بعض أهل العلم يقول : كان عطاء أسود أعور أفطس أشل أعرج ، ثم عمي ، وكان ثقة، فقيها ، عالما ، كثير الحديث .
قال أبو داود : أبوه نوبي ، وكان يعمل المكاتل ، وكان عطاء أعور أشل أفطس أعرج أسود ، قال : وقطعت يده مع ابن الزبير " انتهى من "سير أعلام النبلاء" (5/78) .
فانظر .. هل منعته هذه الأوصاف من طلب العلم ، وإمامة الناس ، والتصدي للتدريس والإفتاء ، والبذل والعطاء ؟
وهل كانت هذه الأوصاف مانعة من إقبال الناس عليه ، وإجلالهم له ، وأخذهم العلم عنه ؟
وانظر .. كم أعطاك الله من نعمة في بدنك حُرمها ذلك الإمام الكبير ؟
قال الذهبي في تتمة ترجمة هذا الإمام : " قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك [الخليفة] ، وهو جالس على السرير، وحوله الأشراف ، وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته ، فلما بصر به عبد الملك، قام إليه فسلم عليه ، وأجلسه معه على السرير ، وقعد بين يديه ، وقال : يا أبا محمد : حاجتك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ! اتق الله في حرم الله ، وحرم رسوله ، فتعاهده بالعمارة ، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار ، فإنك بهم جلست هذا المجلس ، واتق الله في أهل الثغور ، فإنهم حصن المسلمين ، وتفقد أمور المسلمين ، فإنك وحدك المسؤول عنهم ، واتق الله فيمن على بابك ، فلا تغفل عنهم ، ولا تغلق دونهم بابك ، فقال له : أفعل ، ثم نهض وقام ، فقبض عليه عبد الملك وقال : يا أبا محمد ! إنما سألتنا حوائج غيرك ، وقد قضيناها ، فما حاجتك ؟ قال : مالي إلى مخلوق حاجة ، ثم خرج ، فقال عبد الملك : هذا وأبيك الشرف ، هذا وأبيك السؤدد " انتهى .
فنوصيك بالتوبة إلى الله تعالى ، والإقبال عليه ، والاجتهاد في طاعته ، والإكثار من شكره وحمده ، وعدم الالتفات إلى ذلك الأمر ، والاجتهاد في عملك ووظيفتك ، والإحسان وبذل المعروف للناس ، فإنك تنال بذلك الأجر والرفعة في الدنيا والآخرة .
نسأل الله تعالى لك التوفيق والسداد .
والله أعلم .
تعليق