الحمد لله.
أولاً:
إن ما يراه المسلم من تصرفات بعض الملتزمين لا ينبغي أن ينعكس عليه هو ، ويؤثر في دينه واستقامته ؛ لأن كل بني آدم خطَّاء ، وعلى المسلم أن يساهم في تكثير النماذج الطيبة الصالحة في هذه الطائفة من الناس ، لا أن يتخلى عنهم ، ويتتبع عوراتهم ، وينشر نقائصهم ، وهذا غاية ما يحرص عليه أبالسة الإنس والجن ، عندما يشيعون تصرفات بعض الملتزمين السيئة ، سواء كانت صحيحة في أصلها ، أو هي عليهم مفتراة : أن يصدوا الناس بذلك عن دين الله عز وجل ، وأن يجعلوهم فتنة لغيرهم .
ثانيا :
كما نحذر السائلة – وغيرها – من التسخط على قدر الله ، والطعن في حكمته تعالى ، ففي سؤالها جملة يُفهم من ظاهرها الاعتراض على الله في تقديره ، والطعن في حكمته عز وجل ، فهي تظن أن المسلم إن كان يخشى ربه ، ويتقيه أنه سيعيش أبد عمره في سعادة ، وهناء ، وأن حال الشقاء والهموم والغموم إنما هي من نصيب العصاة ! وهذا ليس بصحيح شرعاً ، ولا هو واقع فعلاً ، قال تعالى : ( فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ . كلَاَّ ) الفجر/ 15 – 17 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
بيَّن سبحانه أنه ليس كل مَن ابتلاه في الدنيا يكون قد أهانه ، بل هو يبتلي عبده بالسراء والضراء ، فالمؤمن يكون صبَّاراً شكوراً ، فيكون هذا ، وهذا : خيراً له ، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) .
" مجموع الفتاوى " ( 8 / 75 ) . فالابتلاء للطائعين يحصل كثيراً ، وكثيراً ما يُعاقب العصاة بضيق صدر ، وبهموم وغموم ، فضلاً عن العقوبات في أبدانهم .
والمسلم يعلم أنه قد يفتن في دنياه ، قال تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ .وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت/ 2،3 .
والمسلم يعلم أنه يتقلب بين السراء والضرَّاء ، فعَنْ صُهَيْبٍ الرُّومي قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم ( 2999 ) .
فلا عجب بعد أن يعلم المسلم هذا أن يصيبه الله بضرٍّ ، أو يعرضه لفتنة ، وفي كل ذلك حكَم لله جليلة ، ومصالح للمسلم عظيمة .
ثم كيف تغير السائلة معاملتها مع والدها إلى السيء ، وتكره المصلين في المساجد ، وتترك الصلاة أحياناً : ثم ترى أنها تستحق النعيم ، والسعادة في حياتها ؟ بل وتقول " : " يا رب نحن عمرنا ما عملنا شيئاً يغضبك ، ونعيش صح ، ونخاف الله ، وهذا حالنا ؟ والناس العاصون والذين ما يخافون الله مرتاحون في حياتهم ؟ " فأين الصح مع هذه المعاصي ، وهي تدور بين كونها كبائر ، وكفراً مخرج من الملة ؟! .
فإنك إن كنتِ محسنة في فعالك : كان ما يصيبكم ابتلاء من الله ، فعليكم الصبر ، وإن كنتِ مسيئة مع الناس ومع الله : كان ما أصابك عقوبة من الله على ذلك ، فاتركي تلك المعاصي ، وأقبلي على الطاعات ، واعلمي أن الله تعالى لا يقدِّر شيئاً إلا لحكمة بالغة .
ثالثا :
ما ذكرته السائلة عن والدها إن صحَّ عنه : فهو في غاية السوء ، وإن عليه أن يتوب منه ، وأن يصلح ما بينه وبين ربِّه ، وإن عليه أن يعطي كل ذي حقٍّ حقَّه ، فيعدل بين زوجتيه – وينظر في العدل الواجب عليه جواب السؤال رقم : ( 10091 ) - ، وينفق على أهل بيته بالمعروف ، فلا يسرف ، ولا يقتِّر ، وعليه أن يتقي الله في اتهامه بناته بما ليس فيهن ، وما يفعله من مخالفات ليس بين أحدٍ من أهل الإسلام فيها اختلاف ، بل كلها معاصٍ متفق على قبحها ، وسوئها ، وتعريض صاحبها لوعيد الله تعالى .
وعليكِ أنتِ أن تصبري على بخل والدك ، وأذيته ، وسوء فعاله ، وعليك مداومة تذكيره بما أوجب الله عليه من تحمل الأمانة ، ومن العناية والرعاية بأهل بيته ، وعليكم نصحه بأن لا يكون ذا وجهين ، وأن أهله أولى من غيرهم أن يتبسط معهم ، ويُسعدهم ، وإن استمر على عدم تغيير حاله للأفضل : فيمكنكم تكليم شيوخه ، وعقلاء أصدقائه في الدعوة ، لينصحوه ، ويوجهوه نحو الأفضل في التعامل مع أهل بيته ، ومثل هؤلاء قد عُرف عنهم حسن التعامل مع الناس ، والصبر على أذيتهم ، بل وضررهم ، فالطريق إلى قلوبهم ، وعقولهم : سهل ، ويسير ، ويُرجى أن يكون نافعاً فيهم أكثر من غيرهم .
واعلمي أن لأبيك عليك حقّاً في الاحترام ، والتقدير ، وإن أساء إليكم ما أساء ؛ فمن عصى الله فيك ، وأساء إليك ، فأطيعي الله ـ أنت ـ فيه ، وأحسني إليه ، كما قال الله تعالى : ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) فصلت /34 ؛ فكيف إذا كان هذا المسيء بينك وبينه رحم ؟ فكيف إذا كان أباك ؟ واستعيني بالله تعالى ربكم ، بطاعته ، ودعائه ، أن يهديه ، ويصلح باله ، ويوفقه ، وأن يجمع بينكم جميعاً على طاعة ، وخير .
والله أعلم
تعليق