الحمد لله.
الأصل في المسلم أنه محبوب في أهله ومجتمعه ، مرغوب من جيرانه ، مقبول من جميع من يخالطه ويعرفه ، لأنه يتحلى بالأخلاق الكريمة ، والصفات الفاضلة ، كريم الخصال ، جميل الفعال ، سهل هين لين ، يألف ويؤلف ، يحبه أهل الأرض ويحبه أهل السماء ، ولأنه هو يحب المؤمنين والمسلمين ، ذليل لإخوانه وجيرانه ، حكيم في أقواله وأفعاله ، ومثله يلقي الله له القبول في الأرض .
يقول الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا طه/96
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضي الله، عز وجل، لمتابعتها الشريعة المحمدية -يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه. وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه ....- فذكر الأحاديث التي سيأتي ذكرها ثم قال : -
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال : حُبًّا .
وقال مجاهد عنه : ( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال : محبة في الناس في الدنيا .
وقال سعيد بن جبير عنه : يحبهم ويُحببهم ، يعني : إلى خلقه المؤمنين . كما قال مجاهد أيضًا ، والضحاك وغيرهم . وقال العوفي، عن ابن عباس أيضًا : الود من المسلمين في الدنيا ، والرزق الحسن ، واللسان الصادق.
وقال قتادة : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) إي والله في قلوب أهل الإيمان ، ذكر لنا أن هَرِم بن حَيَّان كان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم .
وقال قتادة : وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : ما من عبد يعمل خيرًا أو شرًّا إلا كساه الله عز وجل رداء عمله." انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (5/267)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ . قَالَ : فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ . ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ . فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ . قَالَ : ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ . وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ : إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ . قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ . ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ : إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ . قَالَ : فَيُبْغِضُونَهُ . ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ
رواه البخاري (3209) ، ومسلم (2637) وبوب عليه النووي بقوله : باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده .
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يلزم أن يكون سببا في بغض الناس للمؤمن ، بل المؤمن الحكيم يتحبب إلى الناس بالإحسان إليهم وصدق محبتهم ومودتهم ، ولا يتخلى عن وظيفة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإذا استعمل الحكمة واللين فالغالب أن رصيده من المحبة في قلوب الناس يزداد ، لما يرونه من حرصه عليهم ، وشفقته بهم ، وصدق نصيحته لهم ، وإن كان الأمر لا يخلو من بعض المبغضين والحاسدين والحاقدين ، كما وقع للرسل والأنبياء عليهم السلام حيث تآمر عليهم أقوامهم ، وحاولوا قتلهم وإخراجهم من ديارهم .
ومن المعلوم أنه من المستبعد أن يتفق الناس على محبة شخص معين ، وألا يكون له حساد وحاقدون ، والعلماء والدعاة لا بد أن يتعرضوا لسخط بعض الناس الذين أغواهم الشيطان فكرهوا رضوان الله ، وأرادوا أن يطفؤوا نور الله كما حاول المشركون ، أو غلبت عليهم شهواتهم وأهواؤهم ، حتى إنهم ليكرهون العلماء الناصحين ، والدعاة المخلصين ، وهم الذين قصدهم السلف رضوان الله عليهم في بعض ما جاء عنهم .
عن يحيى بن المتوكل قال : " سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يَقُولُ: إِذَا أَثْنَى عَلَى الرَّجُلِ جِيرَانُهُ أَجْمَعُونَ فَهُوَ رَجُلُ سُوءٍ , قَالُوا لِسُفْيَانَ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: يَرَاهُمْ يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي فَلَا يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ , وَيَلْقَاهُمْ بِوَجْهٍ طَلْقٍ" .رواه أبو نعيم في " حلية الأولياء " (7/30)
ومن المعروف في ترجمة سفيان الثوري أنه كان من أشد الناس في هذا الباب ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى إنه كان يبول الدم من حرقته إذا لم يستطع تغيير المنكر، ولكن سياق كلامه في هذا الأثر يقصد فيه أنه لا يمكن أن تجتمع كلمة الناس صالحهم وفاسقهم على حب الداعية ، بل لا بد من حاسدين أو حاقدين .
ثم في بعض الأزمنة التي يكثر فيها أمثال هؤلاء المفسدون الحاقدون تبدو هذه الظاهرة بشكل أظهر وأبين :
روى أبو بكر الخلال رحمه الله في " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " (رقم/66) قال : أخبرني عمر بن صالح بطرسوس قال : قال لي أبو عبد الله – يعني أحمد بن حنبل - :
يا أبا حفص ، يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة ، ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع .
فقلت : يا أبا عبد الله ، وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع ؟
فقال : يا أبا حفص ، صيَّروا أمر الله فضولا . وقال : المؤمن إذا رأى أمرا بالمعروف أو نهيا عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهي ، يعني قالوا : هذا فضول . قال : والمنافق كل شيء يراه ، قال بيده على فمه [يعني: وضع يده على فمه ، كناية عن ترك الكلام في ذلك المنكر] ، فقالوا : نعم الرجل ، ليس بينه وبين الفضول عمل " .
والخلاصة : أن محبة الناس للمؤمن ، وفيهم جيرانه ، ليست علامة سوء على إطلاقها ، كما قد يظن من هذه الآثار السلفية ، وإنما محبة الناس للمؤمن هي نعمة من الله عليه ، شريطة ألا يداهن في أمر الله ، وألا يدع الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر ، خوفا من سقوط هذه المحبة أو نقصانها .
والله أعلم .
تعليق