الحمد لله.
لا بد من مراعاة وما اعتاده الناس من الأخلاق الحسنة
لاشك أن الحياء مما يستحي منه الناس في العادة أمر مطلوب ، وأن مراعاة ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه هو من محاسن الأخلاق ، وما كان مكروها في عرف الناس ، فهو مذموم ، وما جرت عادة الناس على تقبيحه فهو قبيح - ما لم تأت الشريعة بما يخالفه .
وروى البخاري (3484) عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ : إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) .
قال الحافظ :
" قَوْله : (فَاصْنَعْ مَا شِئْت) هُوَ أَمْر بِمَعْنَى الْخَبَر , أَوْ هُوَ لِلتَّهْدِيدِ ، أَيْ اِصْنَعْ مَا شِئْت فَإِنَّ اللَّه يَجْزِيك .
أَوْ مَعْنَاهُ : اُنْظُرْ إِلَى مَا تُرِيد أَنْ تَفْعَلهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُسْتَحَيَا مِنْهُ فَافْعَلْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْتَحَيَا مِنْهُ فَدَعْهُ ... " انتهى .
وجاء أعرابي إلى عمر رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين علمني الدين . فقال :
" أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، وعليك بالعلانية ، وإياك والسر وكل ما يستحى منه" .
"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للالكائي (1/ 333) – "شعب الإيمان" (3976) .
وروى الطبراني في "المعجم الكبير" (312) عن عكرمة بن خالد أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال لابنه حين حضره الموت : "يا بني إنك لن تلقى أحدا هو أنصح لك مني : إذا أردت أن تصلي فأحسن وضوءك ثم صل صلاة لا ترى أنك تصلي بعدها ، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر ، وعليك باليأس فإنه الغنى ، وإياك وما يعتذر منه من العمل والقول واعمل ما بدا لك" .
وقال بعض الحكماء : " إياك وما يعتذر منه ، وما يستحيا من ذكره ؛ فإنما يعتذر من الذنب ، ويستحيا من القبيح " .
"مكارم الأخلاق" للخرائطي (1/ 484)
حكم تعمد إخراج الريح أمام الناس
ولا شك أن تعمد إخراج الريح أمام الناس لغير عذر مناف للحياء ، مناقض للمروءة ، وهو من مساوئ الأخلاق ، لا يعهد مثله إلا عن السفهاء ، وقد ورد عن بعض السلف أن هذا الفعل كان من جملة المنكرات التي يفعلها قوم لوط عليه السلام .
قال الله عز وجل : (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) العنكبوت/28،29.
قال الشوكاني في "فتح القدير" (4 / 285) :
"واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه : فقيل : كانوا يحذفون الناس بالحصباء ويستخفون بالغريب ، وقيل : كانوا يتضارطون في مجالسهم ، وقيل: ... ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات . قال الزجاج : وفي هذه إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المنكر وأن لا يجتمعوا على الهزء والمناهي" انتهى .
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ بَكْرٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ : سُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ : (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) مَا ذَاكَ الْمُنْكَرُ ؟ قَالَ : "كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي الْمَجْلِسِ ، يَضْرِطُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَالنَّادِي : الْمَجْلِسُ" .
"تفسير ابن أبي حاتم" (11/ 425).
وروى مثله عن عائشة وابن عباس والقاسم بن أبي بزة وغيرهم .
انظر : "تفسير ابن كثير" (6/276) – "تفسير الطبري" (20/29) - "الجامع لأحكام القرآن" (13 / 342) .
ومما يدل على أن خروج الريح مما يستحيا منه ما رواه أبو داود (1114) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ) صححه الألباني في "صحيح أبي داود" .
قال في "عون المعبود" (3/326) :
"(فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ : إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذ بِأَنْفِهِ لِيُوهِم الْقَوْم أَنَّ بِهِ رُعَافًا (نزيفاً) . وَفِي هَذَا الْبَاب مِنْ الْأَخْذ بِالْأَدَبِ فِي سَتْر الْعَوْرَة وَإِخْفَاء الْقَبِيح وَالتَّوْرِيَة بِمَا هُوَ أَحْسَن , وَلَيْسَ يَدْخُل فِي بَاب الرِّيَاء وَالْكَذِب , وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ التَّجَمُّل وَاسْتِعْمَال الْحَيَاء وَطَلَب السَّلَامَة مِنْ النَّاسِ" انتهى .
وعلى هذا جرت عادة الناس :
قال المدائني :
"جلس أشعب يوماً إلى جانب مروان بن أبان بن عثمان ، فانفلتت من مروان ريح لها صوت ، فانصرف أشعب يوهم الناس أنه هو الذي خرجت منه الريح . فلما انصرف مروان إلى منزله جاءه أشعب فقال له : الدية ، قال : دية ماذا ؟ دية الضرطة التي تحملتها عنك ، وإلا شهرتك ، فلم يدعه حتى أخذ منه شيئاً صالحه عليه" انتهى .
"نهاية الأرب في فنون الأدب" (ص393) .
وإنما يعرف عدم الحياء من مثل ذلك في أمم أخرى غير أمة الإسلام .
قال الراغب في "محاضرات الأدباء" (1/ 445) :
"زعمت الهند أن حبس الضراط داء دوي ، وإن إرساله منج ، وأنه العلاج الأكبر . وكانوا في يوم اجتماعاتهم ومحافلهم لا يحبسون ضرطة ، ولا يسرون فسوة ، ولا يرون ذلك عيباً ولا ضحكة" انتهى .
وروى البخاري (4942) ومسلم (2855) عن عبد الله بن زَمْعَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنْ الضَّرْطَةِ وَقَالَ : (لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ)
قال النووي رحمه الله :
" َفِيهِ : النَّهْي عَنْ الضَّحِك مِنْ الضَّرْطَة يَسْمَعهَا مِنْ غَيْره , بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَغَافَل عَنْهَا وَيَسْتَمِرّ عَلَى حَدِيثه وَاشْتِغَاله بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ غَيْر اِلْتِفَات وَلَا غَيْره , وَيُظْهِر أَنَّهُ لَمْ يَسْمَع . وَفِيهِ حُسْن الْأَدَب وَالْمُعَاشَرَة " انتهى .
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
حدث في هذا الزمان أناس وللأسف إذا اجتمعوا في بعض مجالسهم يتضارطون فيضحكون على ذلك معجبين بهذا الفعل ، وإذا قيل لهم : اتركوا هذه الأفعال الذميمة ، قالوا : إنها أولى من الجشاء أو مثله ، مع عدم الدليل المانع لذلك ، فبماذا يجابون ؟ أثابكم الله .
فأجابوا :
"لا يجوز التضارط تصنعا ، ولا الضحك من ذلك ؛ لمخالفة ذلك للمروءة ومكارم الأخلاق ، وليس ذلك مثل الجشاء ، فإن الجشاء يخرج عادة دون قصد إليه ولا يضحك منه ، أما إذا خرج الضراط من مخرجه الطبيعي دون تصنع - فلا حرج فيه ، ولا يجوز الضحك منه ؛ لما ثبت عن عبد الله بن زمعة أنه قال : (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس) رواه البخاري " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (26/111) .
أما إخراج الريح – ولو بصوت – لعذر ، كمن به انفلات ريح ، أو المريض بالقولون ، ومن لم يتمكن من حبسها – فهذا لا شيء عليه ، ولا يجوز أن يتضاحك الناس من فعله ؛ للحديث المتقدم .
إنما الشأن فيمن يفعل ذلك عن عمد ؛ ليتضاحك هو وأصحابه ، ولا يبالي بالناس ، ولا يستحي منهم ، فهذا هو المذموم .
والله أعلم
تعليق