الحمد لله.
أولاً :
هذه القصة رواها الإمام البخاري (3849) عن عمرو بن ميمون قال : (رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ ، قَدْ زَنَتْ ، فَرَجَمُوهَا ، فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"ساق الإسماعيلي هذه القصة من وجه آخر مطولة ، من طريق عيسى بن حطان ، عن عمرو بن ميمون قال :
كنت في اليمن في غنم لأهلي وأنا على شرف ، فجاء قرد من قردة فتوسد يدها ، فجاء قرد أصغر منه فغمزها ، فسلت يدها من تحت رأس القرد الأول سلا رفيقا وتبعته ، فوقع عليها وأنا أنظر ، ثم رجعت فجعلت تدخل يدها تحت خد الأول برفق ، فاستيقظ فزعا ، فشمها فصاح ، فاجتمعت القرود ، فجعل يصيح ويومئ إليها بيده ، فذهب القرود يمنة ويسرة ، فجاءوا بذلك القرد أعرفه ، فحفروا لهما حفرة فرجموهما ، فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم" انتهى .
"فتح الباري" (7/160) .
هذه الرواية ـ كما هو ظاهر ـ ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا كلام أحد من أصحابه رضي الله عنهم ، وإنما رواها البخاري رحمه الله حكاية عما شاهده عمرو بن ميمون ، وهو الأودي ، أبو عبد الله الكوفي ، توفي سنة (74هـ) ، أدرك الجاهلية والنبوة وأسلم ، ولكنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ، لذلك لم يعده العلماء من الصحابة ، وإنما من المخضرمين من كبار التابعين .
انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (8/11) .
ومعلوم أن السنة النبوية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي يجب الإيمان بها والتسليم بما جاء فيها ، أما ما يحكيه أحد التابعين عن مشاهدته فلا يرتقي إلى منزلة السنة النبوية بأي حال من الأحوال .
فإذا أدركنا أن الرواية إنما هي كلامٌ ساقه أحد التابعين عما شاهده ، أمكننا إدراك الاحتمالات الواردة عليها ، وعرفنا أنه لا حرج على من تشكك في حقيقة ما جرى بين القردة ، أو نسب إلى عمرو بن ميمون توهم وقوع الرجم عقوبة على السفاد بين القردة ، فمن المقطوع به أن عمرو بن ميمون لم يكن يفهم منطق القردة ، وإنما هو ظنه ، وذلك ما يمكن مخالفته فيه ، وعدم التسليم به .
قال ابن قتيبة الدينوري رحمه الله :
"قالوا – يعني المستهزئين بالسنة الطاعنين عليها - : رَويتم أن قرودا رجمت قردة في زنا ..
ونحن نقول في جواب هذا الاستهزاء : إن حديث القرود ليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ، وإنما هو شيء ذكر عن عمرو بن ميمون ... وقد يمكن أن يكون رأى القرود ترجم قردة فظن أنها ترجمها لأنها زنت ، وهذا لا يعلمه أحد إلا ظنا ؛ لأن القرود لا تنبئ عن أنفسها ، والذي يراها تتسافد لا يعلم أزنت أم لم تزن ، هذا ظن ، ولعل الشيخ عرف أنها زنت بوجه من الدلائل لا نعلمه ، فإن القرود أزنى البهائم ، والعرب تضرب بها المثل فتقول : أزنى من قرد ، ولولا أن الزنا منه معروف ما ضربت به المثل ، وليس شيء أشبه بالإنسان في الزواج والغيرة منه ، والبهائم قد تتعادى ويثب بعضها على بعض ، ويعاقب بعضها بعضا ، فمنها ما يعض ، ومنها ما يخدش ، ومنها ما يكسر ويحطم ، والقرود ترجم بالأكف التي جعلها الله لها كما يرجم الإنسان ، فإن كان إنما رجم بعضها بعضا لغير زنا فتوهمه الشيخ لزنا فليس هذا ببعيد ، وإن كان الشيخ استدل على الزنا منها بدليل وعلى أن الرجم كان من أجله فليس ذلك أيضا ببعيد ، لأنها على ما أعلمتك أشد البهائم غيرة ، وأقربها من بني آدم أفهاما" انتهى .
"تأويل مختلف الحديث" (255-256) .
وقال ابن عبد البر رحمه الله :
"هذا عند جماعة أهل العلم منكر : إضافة الزنا إلى غير مكلف ، وإقامة الحدود في البهائم" انتهى.
"الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (3/1206) .
وقال القرطبي رحمه الله :
"إن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ، ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية" انتهى .
"الجامع لأحكام القرآن" (1/442) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله :
"هذا أثرٌ منكرٌ ، إذ كيف يمكنُ لإنسان أن يعلم أن القردة تتزوج ، وأن مِن خُلقهم المحافظةَ على العرضِ ، فمن خان قتلوهُ ؟! ثم هبّ أن ذلك أمرٌ واقعٌ بينها ، فمن أين علم عمرو بن ميمون أن رجمَ القردةِ إنما كان لأنها زنت ؟!" انتهى .
"مختصر صحيح البخاري" للألباني (2/535) طبعة مكتبة المعارف .
ثم .. لا يمتنع أن تكون القصة حقيقية ، والظن الذي ظنه عمرو بن ميمون صحيحاً ، فعالم الحيوان عالم مليء بالعجائب والبدائع ، وقد قال العرب قديما : "ليس شيء يجتمع فيه الزواج والغيرة إلا الإنسان والقرد" انتهى . " عيون الأخبار "لابن قتيبة" (172) .
بل قال ابن تيمية رحمه الله :
"ومثل ذلك قد شاهده الناس في زماننا في غير القرود ، حتى الطيور" انتهى .
"مجموع الفتاوى" (11/545) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في " كتاب الخيل " له من طريق الأوزاعي : أن مهرا أُنزي على أمه فامتنع ، فأدخلت في بيت وجللت بكساء وأُنزي عليها فنزى ، فلما شم ريح أمه عمد إلى ذكره فقطعه بأسنانه من أصله ، فإذا كان هذا الفهم في الخيل مع كونها أبعد في الفطنة من القرد فجوازها في القرد أولى" انتهى .
"فتح الباري" (7/161) .
وقد ذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه "العقيدة في الله" (ص/129) عن نملة قطَّعها النمل بسبب "الكذب" ! حيث كان رجل يضع لها " حبَّة " ثم تنادي قومها لرفعها ، فيرفعها الرجل فلا يرون شيئا ، وتكرر هذا منه ، ومنها ، فاجتمعوا عليها فقطعوها .
وقد رأينا مقاطع " فيديو " عن الحيوانات ما لا يمكن تصديقه لو نُقلت لنا نظريا ، ومنها : عطف "نمر" على مولود "قردة" قتلها ، وسحبها لشجرة ليفترسها ، ثم لما نزل جنينها من بطنها : تركها وانشغل بمولودها يعطف عليه ، ويحرسه من الضباع ، ورفعه معه إلى الشجرة !
ولمزيد من هذه العجائب يمكن مراجعة كتاب الدكتور عمر الأشقر "العقيدة في الله" (ص/111-168) .
وأما الجواب عن اعتراض ابن عبد البر على تسمية ما وقع بين القردة زنا ، والحيوانات لا تكليف عليها ، فأجاب عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله :
"لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زنا حقيقة ولا حدا ، وإنما أطلق ذلك عليه لشبهه به ، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان" انتهى .
"فتح الباري" (7/160) .
ثانياً :
أما السؤال عن زواج الحيوانات من بعضها فهذا مرجعه إلى علماء الأحياء المتخصصين في عالم الحيوانات .
والله أعلم .
تعليق