الحمد لله.
نسأل الله أن يعيننا وإياك على ذكره وشكره وحسن عبادته ، وأن يجعلنا جميعا من الدعاة إلى الله تعالى ، على ما يحب سبحانه من البصيرة في الدين ، والمتابعة لهدى المرسلين .
وبعد ، فلتعلم ـ أيها الأخ الكريم ـ أمرا له أهميته ، نقدمه بين يدي الجواب عن مشكلتك ؛ وهذا الأمر هو أن عندنا نوعين من التصرفات ، أو الأخلاق الاجتماعية ، والتي يتخلق بها المرء في تعامله مع الآخرين ، وهذان الأمران هما : المداراة والمداهنة .
قال ابن القيم رحمه الله :
" المداراة صفة مدح ، والمداهنة صفة ذم .
والفرق بينهما أن المدارى يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق ، أو يرده عن الباطل . والمداهن يتلطف به ليُقِرّه على باطله ، ويتركه على هواه .
فالمداراة لأهل الإيمان ، والمداهنة لأهل النفاق .
وقد ضُرِب لذلك مثلٌ مطابق :
وهو حال رجل به قُرحة قد آلمته ، فجاءه الطبيب المداوي الرفيق ، فتعرف حالها ثم أخذ في تليينها ، حتى إذا نضجت أخذ في بَطِّها برفق [ أي : شقها ] وسهولة حتى أخرج ما فيها ، ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساده ، ويقطع مادته ، ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبت اللحم ، ثم يذُرُّ عليها ـ بعد نبات اللحم ـ ما ينشف رطوبتها ، ثم يشد عليها الرباط ، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت .
والمداهن قال لصاحبها : لا بأس عليك منها ، وهذه لا شيء ، فاسترها عن العيوب بخرقة ، ثم الهُ عنها . فلا تزال مِدتها تقوى وتستحكم ، حتى عظم فسادها " . انتهى. "الروح" (232) .
فإذا كان حالك مع هؤلاء القوم كحال الطبيب ، الذي يتلطف بهم ، ليعالج ما بهم من أمراض الشبهات والشهوات ، والبدع والمعاصي والانحرافات ، وترفقت بهم في ذلك : فتلك حال ممدوحة ، ولست مكلفا بأن تعالج كل ما بهم من الأمراض دفعة واحدة ، بل ابدأ بالأهم فالمهم ، وبالمرض القاتل الفتاك أولا : الشرك وأسبابه ، ثم ما يليه من البدع والمعاصي والفجور ، كل هذه أمراض تحتاج إلى علاج الطبيب الرفيق الحاذق ، في لطف ورفق وأناة .
وإياك إياك أن تظن أن ما أنت عليه من الطب خداع للمريض ، أو كذب وسوء ، وإياك إياك أن تفقد الحكمة ، والعلم ، وتجانب الصراط في طبك للمرضى ، فساعتها ستنتقل إليك العدوى ، وتصبح أنت المريض !!
إن الواجب عليك هو تبليغ كتاب الله وسنة رسوله ، وأن تحافظ على منهجك السلفي ، وتستعين بكل وسيلة لتوصيله لمن حولك من الناس ، لكن في مدارة الطبيب وحلمه ، وليس في المداهنة الباطلة ، بأن تقرهم على بدعة أو شر ومعصية ، وإن كان لك أن تسكت عن بعض الشيء ، حتى تتمكن من علاجه ما هو أخطر منه ، ثم علاجه هو ، ما استطعت إلى ذلك سبيلا .
وحذار أن تفتح على نفسك باب التأويلات الباطلة ، فتقع في معصية بعد أخرى ، أو بدعة وثانية ، أو تتنازل عن شيء من أصول اعتقادك ، لتأليف القلوب ، ومصلحة الدعوة ، كما يتوهم المتوهمون .
وأما ما ذكرت من تقصير لحيتك ، فنحن نصدقك القول : إننا نخاف عليك من مغبة ذلك ، أن يكون بداية لطريق تنازل طويل ، يبدأ من اللحية ، وينتهي بالعقيدة السلفية ، مرروا بما شئت من الهدي الظاهر ، والسنن القولية والعملية ؛ فحذار حذار، ولست مكلفا بهلكة نفسك لتنقذ غيرك : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) المائدة/105 .
وأما إن كان التقصير ، هو فقط ، فيما زاد على القبضة ، فنرجو أن يسعك ذلك ، فقد قال به بعض أهل العلم ، من علماء السنة ، وفعله بعض السلف الصالح ، وإن كنا نرى السنة في خلافه ، وأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، هو ترك اللحية كما هي .
على أنه يترجح جانب الجواز في حقك : إذا تحققت المصلحة الشرعية من ذلك التقصير ، خاصة إذا كنت في ديار الغربة ، أو بلاد ليست السنة فيها ظاهرة ، وأهل السنة غير ممكنين فيها ، وكانت ترك بعض السنن أعون لك على الاستمرار في الدعوة إلى الله ، وتأليف القلوب ، وجمع الناس إلى طريق السنة ، ودلالتهم على أهلها : فيسعك ، إن شاء الله ، ترك بعض ما تعجز عن إظهاره من سنن الهدي الظاهر ، إلى أن يأذن الله ويمكن للسنة وأهلها .
غير أننا نقول لك : احذر على قلبك ، وكن فقيها بأمر نفسك ، وأمر دينك ، ولا تجعل ما تركته ، وأنت معذور ، سببا وطريقا تترك به ما تقدر عليه ؛ فقد قال أهل العلم : " الميسور لا يسقط بالمعسور" ؛ يعني : أن ما عجزت عن القيام به من الواجبات والمستحبات : ليس عذرا لك في ترك ما قدرت على الإتيان به من ذلك .
وأما ما ذكرت من اكتشافهم أمرك : فلا عليك ، أنت بلغ ما علمت من دين ربك ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولا عليك بما نالك في ذلك ، كما قال الله تعالى : ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) لقمان/17.
وساعتها : إن عجزت عن إتمام دعوتك في مكانك هذا ، فلعل الله أن يبدلك ما هو خير منه ، أو ييسر لك من سبل الدعوة ما هو أنفع من ذلك .
والله أعلم .
تعليق