الحمد لله.
أولا :
ما جرى به عرف الناس في كثير من البلاد من بذل المال في مثل هذه المناسبات السارة ، لصاحب العرس ، أو من رزق بمولود ، أو نحو ذلك ، على أن يعود آخذ المال ، فيرد نفس المبلغ ، أو أزيد منه ، في مثل هذه المناسبات : لا بأس به ، بل هو أمر حسن ، لما فيه من المواساة بالمال ، ومساعدة الآخرين في مثل هذه المناسبات التي يغلب الحاجة فيها إلى المال ، لكثرة النفقات فيها .
وهذا المال ، وهو المعروف في كثير من البلاد باسم " النقوط " ، هو قرض ، يجب رده في مثل هذه المناسبة ، كما جرى به عرف الناس ، بل إذا احتاجه باذله وطلبه : وجب رده إليه متى طلبه ، ولذلك لا يزال يذكره الباذل له ، ويقيده في أوراق خاصة بمثل هذا النوع من القروض .
وقد نص غير واحد من الفقهاء على أن " النقوط " دين ، يجب رده لصاحبه ، على ما جرى به العرف .
َسُئِلَ الفقيه الشافعي : ابن حجر الهيتمي عن حكم النقوط . فأجاب :
" َالنُّقُوطُ : أَفْتَى الْأَزْرَقِيُّ وَالنَّجْمُ الْبَالِسِيُّ بِأَنَّهُ قَرْضٌ ، فَيَرْجِعُ بِهِ دَافِعُهُ , وَخَالَفَهُمَا الْبُلْقِينِيُّ ، وَالْعَادَةُ الْغَالِبَةُ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يُعْطِي شَيْئًا مِنْهُ إلَّا بِقَصْدِ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ مِثْلُهُ ، إذَا عَمِلَ نَظِيرَ ذَلِكَ الْفَرَحِ , وَقَاعِدَةُ أَنَّ الْعَادَةَ مُحْكَمَةٌ تُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . " انتهى .
"الفتاوى الفقهية الكبرى" (3/265) .
وقال المرداوي ـ الحنبلي ـ :
" فَائِدَةٌ : قَالَ الْكَمَالُ الدَّمِيرِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمِنْهَاجِ فِي " النُّقُوطِ " الْمُعْتَادِ فِي الْأَفْرَاحِ : قَالَ النَّجْمُ الْبَالِسِيُّ : إنَّهُ كَالدَّيْنِ لِدَافِعِهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ , وَلَا أَثَرَ لِلْعُرْفِ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّهُ مُضْطَرِبٌ . فَكَمْ يَدْفَعُ النُّقُوطَ , ثُمَّ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ ؟ انْتَهَى . (الإنصاف 8/315) .
والشاهد من النص أنه حكم بأن النقوط دين ، يجب رده إلى صاحبه ، حتى مع اضطراب العرف في شأنه ، فأما إذا كان العرف مضطردا برده والمطالبة به : فلا شك في أنه أقوى في القضاء بوجوب رده واعتباره دينا ، وهو ما بنى عليه الهيتمي ترجيحه فيما سبق نقله .
وسئل الشيخ عليش المالكي رحمه الله عن : " رَجُلٍ صَنَعَ عُرْسًا فَوَهَبَ لَهُ رَجُلٌ إرْدَبَّ قَمْحٍ هِبَةَ ثَوَابٍ , ثُمَّ بَعْدَ سِنِينَ طَلَبَ الْوَاهِبُ الثَّوَابَ فَهَلْ يُقْضَى عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِدَفْعِ الثَّوَابِ لِلْوَاهِبِ .. ؟ "
فقال في جوابه :
" نَعَمْ يُقْضَى عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِدَفْعِ الثَّوَابِ لِلْوَاهِبِ ، إنْ شَرَطَ ، أَوْ اُعْتِيدَ ، وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الدَّفْعِ لَا يَوْمَ الطَّلَبِ ، كَمَا فِي الْخَرَشِيِّ وَغَيْرِهِ ...
قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ : مَا يُهْدَى مِنْ الْكِبَاشِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ الْعُرْسِ : فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلطَّالِبِ بِالْمُكَافَأَةِ عَلَيْهِ ؛ لِلْعُرْفِ ، وَأَنَّ الضَّمَائِرَ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُهْدِيهِ مِثْلَهَا إذَا كَانَ لَهُ عُرْسٌ ...
وَاسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ إذَا كَانَ لَهُ عُرْسٌ : أَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَاهِبَ الصَّبْرُ حَتَّى يَحْدُثَ لَهُ عُرْسٌ ، وَنَحْوُهُ فِي الْبُرْزُلِيِّ . وَظَاهِرُ كَلَامِ التَّتَّائِيِّ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّبْرُ إلَيْهِ ، إنْ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ . وَتَبِعَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَالْخَرَشِيُّ وَنَصُّهُ : وَأَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ الثَّوَابَ إلَّا أَنْ تَفُوتَ بِيَدِهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ يَوْمَ قَبْضِ الْهِبَةِ ، وَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ شَيْئِهِ مُعَجَّلًا , وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ عُرْسٌ انْتَهَى ..." انتهى .
وفي السؤال التالي له :
" مَا قَوْلُكُمْ فِيمَنْ دَفَعَ لِآخَرَ نُقُوطًا فِي فَرَحٍ , ثُمَّ طَالَبَهُ بِهِ فَهَلْ يُجَابُ لِذَلِكَ مُعَجَّلًا , وَلَا يَلْزَمُهُ التَّأْخِيرُ حَتَّى يَحْدُثَ لَهُ فَرَحٌ أَفِيدُوا الْجَوَابَ ؟
فَأَجَبْت : بِأَنَّهُ يُجَابُ لِذَلِكَ مُعَجَّلًا ، لِلنَّصِّ الْمَذْكُورِ فِي الْجَوَابِ قَبْلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . " انتهى .
" فتح العلي المالك" (2/268) .
ثانيا :
ما جرت به العادة من رد هذا النقوط ، مع زيادة أخرى للمهدي ، تصبح دينا عنده ، ويصبح هو مدينا بهذا النقوط الجديد : الذي يظهر أنه لا بأس به ، إن شاء الله ؛ فإن هذه الزيادة التي جرى العرف بها : لن يتملكها الباذل الأول نظير القرض الذي بذله ( النقوط ) ؛ بل هي نوع من المكافأة والمواساة والعدل في المعاملة : فكما أن الباذل الأول أقرضك عند حاجتك ، فمن العدل أن تقرضه أنت عند حاجته ، وليس فقط أن ترد إليه دينه ، وهي تشبه ، من بعض الوجوه ، جمعية الموظفين : التي يقرض فيها كل واحد صاحبه ، على أن يقرضه الآخر إذا جاءت نوبته في استلامها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى : ( وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ) الليل/19-21 : " والمعنى : لا يقتصر في العطاء على من له عنده يد يكافئه بذلك ؛ فإن هذا من العدل الواجب للناس بعضهم على بعض ، بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة ، وهذا واجب لكل أحد على كل أحد ؛ فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى : لم يحتج إلى هذه المعادلة ، فيكون عطاؤه خالصا لوجه ربه الأعلى".
"منهاج السنة النبوية" (7/372) ، وينظر : "الفروع" لابن مفلح (4/638) ، "الاختيارت" ، لشيخ الإسلام (183) .
تنبيه :
إذا جرى العرف في بلد معين بأن ما يعطى في مثل هذه المناسبات إنما هو هبة محضة ، لا ينتظره باذله رده، ولا يطلب ثواباً عليه، فهذا ليس ديناً، ولا يجب على آخذه إحصاؤه ، ورده ، وإن كان يستحب له أن يكافئ المعطي على ذلك .
وهكذا إن قامت قرينة قوية على أن صاحبه لا ينتظر أن يسترد ما بذله ، كأن يكون أباً أو أخاً أو صديقاً حميماً أراد أن يهديه أو يواسيه بماله .
والله أعلم .
تعليق