الخميس 6 جمادى الأولى 1446 - 7 نوفمبر 2024
العربية

النصح لمن اشتغل بتفضيل عالم على آخر في المنزلة والعلم

147097

تاريخ النشر : 29-06-2010

المشاهدات : 19731

السؤال

رأينا مؤخراً أناساً يدخلون في مناظرات حيث يرفع بعض الناس أناساً آخرين فوق الأئمة الأربعة ، فهناك على سبيل المثال من يرفع ابن تيمية فوق الإمام الشافعي ومالك وأحمد ، وهناك الآن من يقول بأن هناك أئمة الآن أفضل من ابن تيمية ، كيف يمكن لهذا أن يكون صحيحاً ؟ أرجو أن تجيبوا بشيء من التفصيل .

الجواب

الحمد لله.


1. لا شك في وجود تفاوت بين الناس ، والعلماء من الناس الذين تتفاوت درجتهم ومنزلتهم ، كما يتفاوت علمهم ، وإذا علمنا أن الأنبياء عليهم السلام يتفاوتون لم يكن مستغرباً وجود تفاوت بين العلماء ، قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) البقرة/ 253 .

2. أما التفاوت في الفضل والمنزلة عند الله تعالى : فلا يحل لأحدٍ أن يتجرأ على القول به ؛ لأن ذلك من الغيب الذي لم يُطلعه الله تعالى على ذلك المفضِّل ، فليوكل أمر ذلك إلى العالم بخلقه عز وجل فهو المطلع على إخلاص الخلق وصدقهم ، وهو العالم بالأقرب منهم إليه سبحانه وتعالى .

3. وأما التفاوت بين العلماء في العلم : فإن الحكم عليه ليس للعوام ، ولا للجهلة ، ولا للمقلدين ، ولا للمتعصبين ، وإن حكم هؤلاء لا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار ، وإنما الحكم لأهل العلم الذين صدقوا مع أنفسهم في حكمهم ، وكانوا من أهل الاختصاص في ذلك العلم ؛ فالعالم بالحديث هو الذي يعلم مقادير المشتغلين بذلك العلم ، والعالم بالفقه هو الذي يميز أهل الفقه ، ويعرف درجات المفتين .
ثم لم نر من أهل العلم اشتغالا بذلك التصنيف والتقييم لأقدار العلماء ، إلا حيث وجدت مصلحة ، أو مناسبة اقتضت ذلك ، ولم يكن ذلك منهم على سبيل التنقص من الآخرين .
قال تاج الدين السبكي – رحمه الله - :
الدخول بين أئمة الدين والتفضيل بينهم لمن لم يبلغ رتبتهم : لا يحسن ، ويخشى من غائلته في الدنيا والآخرة ، وقلَّ من استعمله فأفلح ... وربما كان سبباً إلى الوقيعة في العلماء الموجبة لخراب الديار .
" الأشباه والنظائر " ( 2 / 328 ) .

4. وقد كان العقلاء من العلماء يعرفون للعلماء – وخاصة من السلف المتقدمين – فضلهم وعلمهم ، فلم يكونوا يدخلون العوام في متاهات التفضيل ، وكانوا يحطون من قدر أنفسهم ويعلون من قدر من سبقهم من أهل العلم .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
وأهل العلم النافع على ضد هذا ، يسيؤون الظن بأنفسهم ، ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ، ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم ، وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها ، وما أحسن قول أبي حنيفة وقد سئل عن علقمة والأسود أيهما أفضل ؟ فقال : واللَه ما نحن بأهلٍ أن نذكرهم ؛ فكيف نفضل بينهم ؟!
وكان ابن المبارك إذا ذكَر أخلاق من سلف ينشد :
                            لا تَعرضنَّ لذكرنا في ذِكرِهِم ... لَيسَ الصَحيحُ إِذا مَشى كَالمُقعَدِ
" فضل علم السلف على الخلف " ابن رجب ( ص 55 ) .

5. وبعض الجهلة المعاصرين ظنَّ أن من أكثر من تسويد الصفحات وأكثر من التصنيف ، فقد فاق من قبله في العلم ! وأنه قد سبقهم في المعرفة والاطلاع ، ولا ريب أن ذلك من الخطأ في الظن ، والبطلان في الحكم والقول .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
وقد ابتُلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض مَن توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم ، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله ! ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين ! وهذا يلزم منه ما قبله ؛ لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولاً ممن كان قبلهم ، فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله : كان أعلم ممن كان أقل منهم قولاً بطريق الأولى ، كالثوري ، والأوزاعي ، والليث ، وابن المبارك ، وطبقتهم ، وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضاً ،
فإن هؤلاء كلهم أقل كلاماً ممن جاء بعدهم ، وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح ، وإساءة ظن بهم ، ونسبة لهم إلى الجهل وقصور العلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة إنهم أبر الأمَّة قلوباً ، وأعمقها علوماً ، وأقلها تكلفاً ، وروي نحوه عن ابن عمر أيضاً ، وفي هذا إشارة إلى أن مَن بعدهم أقل علوماً وأكثر تكلفاً .
وقال ابن مسعود أيضاً : " إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه فمن كثر علمه وقلَّ قوله فهو الممدوح ومن كان بالعكس فهو مذموم " ، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه وأهل اليمن أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم ، لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك ، وهذا هو الفقه والعلم النافع ؛ فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام : ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق .
" فضل علم السلف على الخلف " ( ص 40-42 ) .

6. قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلام نفيس له ، أن الاشتغال بالتفضيل بين بعض المذاهب ، أو الشيوخ المتبوعين ، وتنقص الآخرين ، هو من أصول أهل البدع ، ومناهج أهل الرفض والتشيع ؛ بل هو من سنة أهل الكتابين من قبلنا : قالت اليهود ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء ؟!
قال رحمه الله :
"واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط ؛ فالخارجي يقول ليس الشيعي على شيء ، والشيعي يقول ليس الخارجي على شيء ، والقدري النافي يقول ليس المثبت على شيء ، والقدري الجبري المثبت يقول ليس النافي على شيء ، والوعيدية تقول ليست المرجئة على شيء ، والمرجئة تقول ليست الوعيدية على شيء ؛ بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية المنتسبين إلى السنة ؛ فالكلابي يقول ليس الكرَّامي على شيء ، والكرامي يقول ليس الكلابي على شيء ، والأشعري يقول ليس السالمي على شيء ، والسالمي يقول ليس الأشعري على شيء ، ويصنف السالمي ـ كأبي على الأهوازي ـ كتابا في مثالب الأشعري ، ويصنف الأشعري ـ كابن عساكر ـ كتابا يناقض ذلك من كل وجه وذكر فيه مثالب السالمية ، وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها ، لا سيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصولية ، وخلط هذا بهذا ؛ فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك ، ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد ، وكذلك الحنفي يخلط بمذاهب أبي حنيفة شيئا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة .
وهذا من جنس الرفض والتشيع ، لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء ، لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة !!
والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله : أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له ، وطاعة رسوله ؛ يدور على ذلك ويتبعه أين وجده ، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة ؛ فلا ينتصر لشخص انتصارا مطلقا عاما إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا لطائفة انتصارا مطلقا عاما إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار ، ويدور مع أصحابه ـ دون أصحاب غيره ـ حيث داروا ؛ فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط ، بخلاف أصحاب عالم من العلماء ، قد فإنهم قد يجمعون على خطأ ، بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ ، فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مُسَلَّما إلى عالم واحد وأصحابه ، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم ، ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع ، ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول ، فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل ، ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة .. " انتهى .
"منهاج السنة النبوية" (5/260-262) ، وينظر : "مجموع الفتاوى" (4/157) .

7. ولما سبق – جميعه - : لا يجوز للمسلم أن يشتغل بتصنيف العلماء أيهم أكثر علماً ، وليدع ذلك لأهل الاختصاص ، وما رأينا تفضيلاً من العامة وأشباههم إلا ومعه تنقيص لآخرين من أهل العلم والفضل ، وفي ذلك اشتغال بما يضر صاحبه ، مع ما فيه من تضييع للأوقات ، فأولئك العلماء وصلوا إلى ما وصلوا إليه بتوفيق الله لهم بإخلاصهم ، واجتهادهم ، وتعبهم على أنفسهم ببذل الأوقات في التعلم ، وبذل الأجساد في الرحلة ، وبذل الأموال في شراء الكتب ، فليشتغل هؤلاء المفضلون بما اشتغل به أولئك الأعلام ، وليكن منهم الثناء والتبجيل لكل من خدم دين الله تعالى ، وعلَّم الناس العلم النافع ، فالعلماء ورثة الأنبياء ، ولا ينبغي مع أولئك الورثة إلا ما يستحقونه من الاعتراف بفضلهم وعلمهم وأثرهم الحسن على الناس .

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب